هوامش على دفتر الإصلاح.(*)  
            

 

ولدَ أدولف هتلر في 20 أبريل 1889 . شاركَ كضابطٍ صغيرٍ في الحربِ العالميةِ الأولى والتي انتهت بهزيمةِ ألمانيا سنة 1918 . خلال سنتي 1920 و1921 أسسَ الحزبَ الوطني الإشتراكي والذي من حروفِ أسمهِ الأولى (باللغةِ الألمانيةِ) نُحتت كلمةَ نازي NAZI . جاءت به الإنتخاباتُ لمنصبِ المستشارِ (رئيـس الـوزراء) يـوم 30 يناير 1933 وفي 2 أغسطس 1934 أضافَ لمنصبِ المستشاريةِ منصباً أعلى كان يشغلُه قبلَه بول فون هيندينبرج وهو المنصبُ الذي جعلَه إعتباراً من هذا التاريخ منذ سبعين سنة ينادَى بلقبِ القائدِ وهو بالألمانيةِ فوهرر (FUHRER) . وخلال نحو أربعة آلاف يوم (هي المدة التي كان فيها هتلر مستشار وقائد ألمانيا) تسببَ هتلر في موتِ أكبرَ عددٍ من البشرِ تسببَ إنسانٌ واحدٌ في موتهِ في تاريخِ البشريةِ (نحو سبعة وخمسين مليون إنسان). تلك حقيقةٌ واضحةٌ وضوحُ الشمسِ في كبدِ السماءِ في يومٍ صافٍ : وأعني أن إنتخاباتَ شهرِ يناير سنة 1933 ثم ما أعقبَ ذلك في شهرِ أغسطس 1934 قد تسببَ في أكبرِ كارثةٍ في تاريخِ الإنسانيةِ . والتي شملت (ضمن كوارث لا تحصى) محرقةً للبشرِ لا نظير لها في تاريخِ الإجرامِ الإنسانيِّ . وجديرٌ بنا ونحن نتكلمُ عن الإصلاحِ السياسيِّ وإحرازِ خطواتٍ نحو ديموقراطيةٍ أوسع أن نتذكرَ هذا المثال لكي ندركَ أن صندوقَ الإنتخاباتِ وإن كان جزءاً هاماً من الديموقراطيةِ إلا أن الديموقراطيةَ لا تُلخَّص ولا تُختزل في هذا الصندوقِ ، وإنما هي عمليةٌ متكاملةٌ تبدأُ من دستورٍ واضحٍ فيه آلياتِ حمايةِ الديموقراطيةِ من أعدائها ثم مؤسساتٍ وآلياتِ العملِ الديموقراطيِّ  والتي تكتملُ بصندوقِ الإنتخاباتِ . أما الصندوق فقط فإنه يبقى قادراً على الإتيانِ بنماذجٍ مثل أدولف هتلر كما فعلَ في ألمانيا منذُ سبعين سنة .

 

ونقطةُ البدايةِ حتى لا يجرفنا (لا قدر الله) تيارٌ كاسحٌ من الفوضى والأحُاديةِ في كلِ شيءٍ ، هي وضعُ دستورٍ عصريٍ فيه فصلٌ كاملٌ بين السلطاتِ وتحديدٌ دقيقٌ لسلطاتِ ومسئولياتِ وكيفيةِ محاسبةِ كلِ مسئولٍ ، وفيه كذلك آلياتُ تداولِ السلطةِ وعدمِ إمكانيةِ قيامِ نظمٍ ثيوقراطيةٍ (أي ديكتاتوريات تحكم باسم الدين) أو أوتوقراطيةٍ (أي ديكتاتوريات تحكم باسم ايدولوجيا أو قومية معينة) وعدمِ جوازِ تعديلِ الدستورِ إلا بكيفيةٍ آمنةٍ وعشراتُ المسائلِ الدستوريةِ الأخرى التي تضمنُ أن الحياةَ السياسيةَ ستكونُ منضبطةً بأحكامِ دستورٍ عصريٍّ (مرةٌ أخرى: عصري) ينظمُ الحياةَ السياسيةَ في "مجتمعٍ مدنيٍ" (مرةٌ أخرى: مجتمعٌ مدنيٌ) .

       

كذلك ينبغيَ وضعُ حدٍ لوجودِ حزبٍ يهيمنُ على الحياةِ السياسيةِ بالكيفيةِ التي تهيمنُ بمقتضاهه أحزاب حاكمة في عددٍ من دول العالم ، إذ أن إضعافَ الأحزابُ الأخرى يجعلُ فرصةَ الحركاتِ غيرِ الشرعيةِ أكبرَ من حجمها الحقيقيِّ . وفي حالةِ مصرَ ، فهناك حاجة ماسة لخطوةٍ جريئةٍ من جانبِ الحزبِ الوطنيِّ لتغييرِ شكلِ وحجمِ دائرةِ نفوذهِ التي تشبهُ شكلَ وحجمَ ونفوذَ الإتحادِ الإشتراكيِّ عندما كان الحزبُ الوحيدَ في الساحةِ . ويجبُ أن يكونَ واضحاً أن إستمرارَ الحالُ الراهنةِ لا يُضعفُ المعارضةَ الشرعيةَ فقط بل يُضعفُ الحزبَ الوطنيَّ بنفسِ القدرِ ويضاعفُ من شكلِ وحجمِ ودائرةِ نفوذِ تياراتٍ سياسيةٍ لم تتحول بعد إلى "أحزابٍ" بالمعنى الموضوعيِّ ولا تزال مجردُ "حركاتً باطنيةً" ذات شعاراتٍ براقةٍ وعدمِ وجودِ برامجٍ محددةٍ (وهو ما يميزُ "الحزب" عن "الحركةِ") .

  

كذلك فإن بناءَ حياةٌ ديمقراطيةٌ حقيقيةٌ وقويةٌ يقتضيَ خطةً تفصيليةً لتقويةِ المجتمعِ المدنيِّ بوجهٍ عامٍ ومنظماتِ حقوقِ الإنسانِ بوجهٍ خاصٍ لأنهما من أهمِ آلياتِ الحيلولةِ دون تقويضِ حزبٍ أو تيارٍ ما للنظامِ الديمقراطيِّ الذي قد يسمحُ بوصولهِ لمواقعِ التأثيرِ. ومن المؤسفِ أن بعضَ النظمِ السياسيةِ التي تمرُ بمرحلةِ تحولٍ أولى للديمقراطيةِ تعاديَ البيروقراطيةُ فيها منظماتَ المجتمعِ المدنيِّ ، رغم أن هذه المنظماتُ هي من أهمِ مكابحِ أَية عمليةٍ لتقويضِ الديمقراطيةِ .

 

 

 ومن الضروريِّ توضيح أن هناكَ فارقاً هائلاً بين شعبيةِ بعضِ التياراتِ الديمقراطيةِ الحقيقيةِ وشعبيتها في ظلِ ظروفٍ معينةٍ . وأعني بذلك أنه في ظلِ (أغلبيةٍ صامتةٍ) قد تكونُ شعبيةُ تيارٍ ما في حدودِ ستين في المائةِ من أصواتِ الناخبينِ ؛ إلا أن مرجعَ ذلك هو لوجودِ أغلبيةٍ صامتةٍ كبيرةٍ لا تؤمن بجدوى المشاركةِ . وفي حالةِ ما إذا شاركت هذه الأغلبيةُ الصامتةُ الواسعةُ فإن شعبيةَ نفسِ التيارِ قد (وهذا شبه مؤكد) تنخفضُ إلى أقلِ من نصفِ النسبةِ المئويةِ المُشارِ إليها سلفاً. وليس من العسيرِ رصد أسبابِ تلك السلبيةِ التي منها تنبعُ تلك الأغلبيةُ الصامتةُ الواسعةُ . وقد كتبت من قبلِ مقالاً مطولاً بعنوانِ (نظرات في سلبيةِ الشعوبِ) ليس هذا مجالَ إعادةِ ما جاءَ فيه وإن كان من الضروريِّ التذكير بأن أهمَ مسبباتُ هذه الظاهرة السلبية هو الشعورُ العارمُ بعدمِ جدوى المشاركةِ . كذلك يمكنُ الجزمُ بأن علاجَ هذه الظاهرةِ لا يحتاجُ لقرونٍ أو عقودٍ وإنما هو رهن (لحظةِ صدقٍ) تزيلُ الشعورَ بعدمِ جدوى المشاركةِ من ضمائرِ الناسِ وتبذرُ محلَه شعوراً بالثقةِ في أن العمليةَ ليست "مجرد تمثيلية" وأن المشاركةَ يمكنُ أن تُحدثَ فرقاً. نحن هنا بحاجةٍ لتغييرٍ نوعيٍّ (كيفيٍّ) وليس لتغييرٍ كميٍّ.

 

 

 

ويقتضيَ الحديثُ عن الإصلاحِ السياسيِّ أن نتفقَ على أن التاريخَ يقدمُ لنا نموذجين فقط للتقدمِ العامِ وللتقدمِ على دربِ الديمقراطيةِ بوجهٍ خاصٍ وهما نموذج أوربا الغربية وأمريكا الشمالية من جهةٍ والنموذج الآسيوي في بلدانٍ مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها من جهة أخرى.  وقد أطلقتُ في بعضِ محاضراتي وصفَ "الطهيِ المتأنيَ" على نموذجِ أوربا الغربيةِ وأمريكا الشماليةِ ، إذ إستغرقَ التطورُ قروناً ، بينما أطلقتُ وصفَ "الطهيِ السريعِ" على النماذجِ الآسيويةِ . وإذا كنا (كمصريين) نرجوَ لوطننا (مصر) بلوغَ ما هو مأمول من تقدمٍ وإزدهارٍ وإستقرارٍ وديمقراطيةٍ وحرياتٍ عامةٍ واسعةٍ خلال سنواتٍ قليلةٍ وليس قروناً عديدةً ، فإنه لا يبقى أمامنا إلاِّ تأملُ ودراسةُ التجاربِ الآسيويةِ والتي جاءت فيها الديمقراطيةُ بفعلِ عواملٍ داخليةٍ. ففي كلِ التجاربِ الآسيويةِ الناجحةِ مرت هذه المجتمعاتُ بمرحلةٍ ركّزت على النجاحِ الإقتصاديِّ الذي تزامن مع إتساع وتنامي ورقيِّ الطبقةِ الوسطى ؛ وهذا هو ما يأتيَ بدرجـاتٍ أعلى مـن الديمقراطيـةِ . وقـد أطلقـتُ فـي عدةِ محاضراتٍ وصفَ The Engineered Reform Phase أي مرحلة الإصلاحِ المُهندَسِ أو المُبرمجِ وهي مرحلةٌ نخطوَ فيها اليوم في مصرَ بخطواتٍ بطيئةٍ بينما تسيرُ المعضلاتُ الحياتيةُ بخطواتٍ أسرع ، بما يوجبُ علينا إدراك عواقبِ الفارقِ بين سرعةِ المعضلاتِ وسرعةِ الإصلاحِ .

  

ويتصلُ الحديثُ عن الإصلاحِ السياسيِّ بموضوعِ مَطالبِ دولٍ كبرى بإحداثِ هذا الإصلاحِ وأحياناً يكونُ الحديثُ عن (ضغوطٍ) وليس عن مجردِ (مطالبٍ) . والأمرِ الهامِ للغايةِ هنا أن يعلمَ الجانبانَ: الجانبُ المطِالبُ (بكسر الطاء) والجانبُ المطَالبُ (بفتح الطاء) أن تجاوزَ "مرحلةُ الطلبِ" أمرٌ إما غير مُجدي أو ذو أثرٍ عكسيٍّ. فكاتبُ هذه السطورُ الذي يُحسبُ في المقامِ الأولِ على عالمِ الإدارةِ (التي مارسها على المستوى التنفيذيِّ والأكاديميِّ) يؤمنُ إيماناً راسخاً أن التغييرَ الإيجابيَّ والتطويرَ الكبيرَ لا ينجزه (الأتباعُ) وإنما ينجزهُ (المؤمنون) Believers not Followers . وكما يكونُ هذا المبدأُ سارياً في عالمِ الإدارةِ والأعمالِ التنفيذيةِ فإنه أيضاً ينطبقُ على عالمِ السياسةِ ودنيا الشعوبِ . ويعني ذلك أن أقصى ما يحقُ لطرفٍ خارجيٍّ أن يقومَ به هو المطالبةُ والإقناعُ - إذ أن تجاوزَ ذلك من جهةٍ لا يجدي ومن جهةٍ أُخرى فإنه يفرزُ حركةً معاكسةً لما هو مطلوب. وإذا راجعنا تاريخَ وتفاصيلَ تجاربِ الدولِ التي تسمى بالنمورِ الآسيويةِ والتي تشيعُ فيها اليومِ ديمقراطياتٌ حقيقيةٌ لوجدنا أنه لا يوجدُ مثالٌ واحدٌ بينها على حالةٍ حدثَ فيها التغييرُ والتطويرُ بضغوطٍ خارجيةٍ.

  

كان معظمُ الحديثِ – حتى الآن – عن الإصلاحِ بمعناه السياسي. أَما الإصلاحُ الإقتصادي (وهو غير الإصلاح المالي) فهو من جهةٍ من نتائج الإصلاح السياسي ومن جهةٍ ثانيةٍ فإن جوهرَه هو "جعل البيئة الإقتصادية ومناخ الإستثمار جاذباً لرؤوس الأموال والمشروعات الدولية والمحلية". وكثرة الحديث غير المنضبط في هذا المجال من قبيل مضيعة الوقت. فعلوم الإدارة الحديثة تعلمنا أن ما لا يُقاس لا يمكن أن نقيّمه. وهناك علم متكامل اليوم من علوم الإدارة الحديثة نشأ تحت مسمى "قياس أو تقييم الأداء" Performance Appraisal ثم أصبح يسمى الآن بالمقياس فقط وهو ما يُعرف بالإنجليزية بـ Bench Mark – وهو علم مهم جداً لأنه يحيّد العواطف والنزعات والرغبات والأهواء وأيضاً "التوجهات الإيدولوجية". وإستعمال "المقياس" يمكن أن يحتاج في هذا المجال لمئات الصفحات لذلك فإنني أضرب مجرد أمثلة على بعض المقاييس:

-     بلغ حجم الإستثمارات الدولية في مصر خلال سنة 2003 أربعمائة (400) مليون دولار أمريكي وهو نصف إستثمارات شركة بترول عالمية كبرى في شرق روسيا وأقل من واحدٍ في المائة (1%) من الإستثمارات الدولية في ماليزيا.

-     بلغت صادرات مصرَ من صناعةِ النسيج أقل من خمسة في المائة (5%) من إمكانيات مصر في هذا المجال حسب عدد من الدراسات الدولية ذات المصداقية العالية ... وفي نفس الوقت فقد تجاوزت صادرات المنسوجات من دولة أصغر (هي الأردن) حجم صادارت مصر من المنسوجات.

في ظل مؤشرات كهذه (ومئات غيرها ليس هذا مجال الإسترسال فيها) يكون الحكمُ علمياً عندما نقول أن هناك حاجة لنقدٍ شديدٍ للذاتِ في مجالِ الإجابةِ عن السؤال التالي: لماذا بلغ حجم الإستثمارات الدولية هذا القدر المتواضع؟ ... وينبغي هنا أن نتجنب إلقاء المسئولية على أي طرف خارجي – لاسيما وإننا نرفض تدخل الغير في أمورنا ، وهو ما يعني أننا مسئولون ليس فقط على الإصلاح وإنما أيضاً عن مشكلاتنا.  

 

ولا يستقيم الحديث عن الإصلاحِ في واقعِنا (حتى لو كان في شكل هوامش ونبذ) بدون الحديث عن "ثقافةِ عدم التغيير". وأبدأ بتقرير أن جميعَ برامجِ تدريبِ الكوادر العليا على الإدارة الحديثة تبدأ بإبراز أهمية "إدارة التغيير" (Managing the Change) - فكل شئ في واقعِ الحياةِ العصريةِ يقتضي الإنخراط الدائم في عمليةِ تغييرٍ تعكس القدرةَ على التعاملِ مع متغيّرات الواقع العديدة والسريعة. ونحن جزء من ثقافةٍ فيها تقديسٌ كبيرٌ للماضي ولما هو مستقر ومتعارف عليه. وهو ما يجعل "ذهنيتنا" (بشكل نسبي) مناهضة (أو رافضة) لثقافة التغيير التي هي "لب الإدارة الحديثة". ولسنا وحدنا الذين تشوب ذهنيتُهم هذه الرقيقة من رقائق تكويننا الثقافي. فهناك بلد عربي آخر قام بحملة تطوير في أوائل التسعينات تحت شعار (تطوير بدون تغيير) (!!!) وهو أمرٌ مستحيل كما أنه يعكس حالة ذهنية لا تستحسن فكرة التغيير – وهذا أمر مفهوم في سوسيولوجية شعوب لاتزال فكرة "القبيلة" و"العائلة" هي أساس تكوينهم في مجالاتٍ عديدةٍ وليس "فكرة المواطنة العصرية".

 

وقد يقول البعضُ ، أن للإسراع في التغيير مخاطر – وهو قول حكيم. ولكن الأمر مرة أخرى لا يترك لتعبيرات أدبية من هذا القبيل. فلو كانت سرعة تنامي المشكلات والمعضلات أكبر من سرعة العلاج – فإن النتيجة الوحيدة ستكون (الإتجاه إلى الأسوأ) ، أما إذا كانت سرعة العلاج أكبر من سرعة تنامي المعضلات ، فإن النتيجة ستصبح إننا (نتجه إلى الأفضل).

   

كانت هذه مجرد "هوامش" على دفتر أهم موضوع في حياتنا العامة اليوم في مصر والذي يلخصه سؤال لا يفتأ يتردد على أَلسنة الكثيرين وهو: إلى أين تتجه سفينة مجتمعنا المصري؟ وأقصى أمل لكاتب هذه السطور ألاَّ تكون الإجابة بتعبيرات أدبية مثل (إلى ما هو أفضل) أو مثل (إلى ما هو أسوأ). فتلك إجابات لا علاقة لها بالعصر والذي يحتم أن تضبط الإجابات بمقاييس محددة تشير إلى (صحة) أو (عدم صحة) المسار كما تتضمن مقارنات علمية بين مسارنا وسرعته وبين مسارات أخرى وسرعتها. 

(*) نُشر بجريدة الأهرام يوم 21 فبراير 2004.