.هلع العاجزين عن التغييـر

.بقلم: طارق حجِّي


في إجتماعٍ مما يسمى بالإنجليزية (إجتماع مائدة مستديرة) بقسم دراسات الشرق الأوسط بواحدةٍ من كبرياتِ الجامعاتِ الأمريكية المعروفة بإنطلاقِ أسماءٍ كبيرة منها كان الحوارُ حول صراع الحضارات. وكان الحاضرون عشرة وكنا منقسمين إلى فريقين. فريق يتبنى الطرحُ القائل بوجودِ صراعٍ محتدم بين الحضاراتِ بما يشبه طرح السيد/ صمويل هانتنجتون الشهير، وفريق لا يؤمن بوجودِ صراعِ حضاراتٍ. كان الفريقُ الأول أغلبيةً كاسحةً أمام أقليةٍ من إثنين كنتُ أحدَهما. وقد سار الحوارُ في مجملِه (فيما هو ظاهر) لصالحِ المجموعةِ التي يؤمن أفرادُها بوجودِ صراعِ حضاراتٍ اليوم فـي العالم. إلا أن الأمرَ تبدل كليةً عندما قامت الأقليةُ بطرحِ السؤال التالي: "كانت اليابان في حالةِ صراعٍ لا يُنكَر مع العالم الحر حتى أغسطس 1945. وإعتباراً من ذلك التاريخ وحتى اليوم فإنه لا توجد أي ملامح صراع أو صدام حضاري بين اليابان والعالم الحر وإنما تنافس إقتصادي وصناعي وتجاري وعلمي عارم وفق قواعد اللعبة في العالم الحر". ثم أردفتُ قائلاً: أفلا يكفي هذا المثال لإثباتِ أمرين:-

    أنه لو كان الذي بين اليابان والعالم الحر هو صدام حضارات لما حدث ذلك التغيير الكلي خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ بالمنظورِ التاريخي.
    أن العلامةَ الفارقة في هذا المثال تتعلق بأن اليابان عندما كانت أوتوقراطية فقد كانت في صدام مع العالم الديموقراطي. وعندما أصبحت اليابان ديموقراطية إنعدم هذا الصدام وإستُبدِل بالتنافس وفق قواعد اللعبة في العالم الحر.

أنهيتُ وزميلي في معسكرِ الأقليةِ الحوار بقولنا: "إن الحضاراتِ لا تتصادم ولكن الأوتوقراطيات والديموقراطيات هي التي تتصادم". إن الحربَ العالمية الثانية كانت حرباً بين الأوتوقراطيات والديموقراطيات. والحربُ الباردة كانت حرباً بين الأوتوقراطيات والديموقراطيات. ولا علاقة لذلك بصدام الحضارات، فليس هناك شيء إسمه صدام الحضارات.

وأذكرُ أنني في هذا اللقاء تحدثتُ عن أمرٍ آخر متصل بالموضوع العام. قلت يومها أن هناك رعباً هائلاً في عقولِ وقلوبِ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناء المجتمعات العربية من إحتمال فقدان الهوية الثقافية الذاتية. وأن اليابان (مرة أخرى) هي التي يمكن أن نتعلم منها أن هذا الخوف لا علاقة له بالعالم الخارجي وإنما بالعالم الداخلي لهؤلاء الخائفين. فالعقلُ العربي المعاصر يحتاج لوقفةٍ مع النفس والتفكير العميق في المسائل التالية:-

    أن خصوصياتنا الثقافية فيها ما هو إيجابي وفيها ما هو سلبي.
    أن خصوصياتنا الثقافية ليست إستاتيكية وإنما ديناميكية بمعنى أن الخصوصيات الثقافية للمصريين في سنة 2000 تختلف في عددٍ من الجوانب (وليس كل الجوانب) عن الخصوصيات الثقافية للمصريين في سنة 1900 وعن الخصوصيات الثقافية للمصريين في سنة 1800 وعن الخصوصيات الثقافية للمصريين في سنة 1700. وبالتالي فإن التوسع في إستعمال مصطلح (ثوابتنا) هو أمرٌ غير علمي وغير دقيق ومعظمه من نسيج الوهم أو التمني.
    أن الخصوصيات الثقافية لا تمحى بالتعامل الواسع مع الآخرين، والدليل على ذلك اليابان. بل وأزعم أن الخصوصيات الثقافية للمنعزلين أو .للمنغلقين معرضة للضياع بسببِ عدم التلقيح أكثر من الآخرين
    أن العقل العربي عندما يفكرُ في موضوع التعاملات الواسعة مع الآخر وبالتحديد الإنخراط في مسيرة التقدم الإنسانية العالمية ويبدأُ في الصراخ "خصوصياتنا الثقافية في خطرٍ شديد" فإنه لا يميز بين أمرين: بين الإنخراط في اللعبة حسب قواعد العالم المتقدم وبين الإندماج الكلي الذي يمحو الهوية والخصوصيات الثقافية. إن الطرف الذي يلعب اللعبة العالمية الجديدة وفق قواعدها الكلية (والتي طورتها الديموقراطيات الغربية) يقومُ بالإندماج في اللعبة دون الإنصهار في الأطراف الأخرى. ويشبه ذلك أن يلعب البرازيليون كرة القدم بأسلوبهم الخاص ولكن وفق .قواعد لعبة كرة القدم الدولي

إن الجهلَ والغرور غير المؤسسين على واقعٍ حقيقي هما ما يجعلَ أي إنسان في عالمنا العربي يؤمن بإمكانية تطوير قواعدٍ للعبةِ العامة غير القواعد التي طورتها الديموقراطيات الغربية. والجهلُ أيضاً هو الذي يجعل البعض يعتقد أن التسليم بقواعد اللعبة هو إهانة أو هزيمة أو إنبطاح وفق التعبير السقيم لمفكرين ليسوا بمفكرين وإنما من شعراء الجاهلية حيث الكلام الكبير هو المعبود الحقيقي والإنجاز الوحيد. إن اليابان (مرة أخرى) لم تنشغل .بتغيير قواعد اللعبة، ولكنها إنشغلت بالتفوق والتميز من خلالِ قواعد اللعبة التي وضعها المنتصرون عليها في صيف 1945

إن الحالة الحالية للإنتليجنسيا العربية تثيرُ حزناً وأسفاً هائلين عند من يريد لهذه المنطقة حظاً وافراً من التقدم. فالإنتليجنسيا العربية في معظمها مشغولة بإدانة قواعد اللعبة التي طورتها الديموقراطيات الغربية والحديثِ عن إمكانيةِ وضع قواعد أخرى للعبة. وهو موقف لا يشترك معهم فيه أحد حتى في الدول التي كانت مؤهلة لعداءٍ أكبر للحضارة الغربية مثل اليابان ونجوم التفوق الأسيوي مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وهونج كونج وبدرجةٍ أقل ماليزيا وأندونيسيا. وإن كنتُ أعتقد أن ماليزيا سوف تلحق بالنموذج الياباني بعد تخلصها من قائدٍ على درجةٍ كبيرة جداً من الكفاءة الإدارية ولكنه في المقام الأول ديكتاتور يسجن معارضيه ويلفق لهم التهم المشينة وينضم (منذ أسابيعٍ) لفريق المدافعين عن صدام حسين.