حـول بنـاء داخـل قـوي

بقلم: طارق حجِّي


لكل مفكرٍ سياسيٍّ قائمةً من الأولوياتِ الرئيسيةِ التي تخدم كتاباته إياها . والأولوية العليا عندي هي "بناء داخلٍ مصريٍّ قويٍّ" بمعنى بناء مجتمعٍ صحيٍّ توجد فيه طبقةٌ وسطى واسعة وذات إستقرار إقتصادي وتعليم عصري ومناخ ثقافي عام يواكب الزمن الآني مع معرفةٍ وإعتزازٍ بتاريخنا دون أن يتحول ذلك إلى حالةٍ مرضيةٍ من عشقِ الماضي . وحتى الذين تأتى أولوياتٌ أخرى غير ذلك على قائمة أولوياتهم سواءً كانت هذه الأولويات العليا قومية أو غير ذلك فإنني أقول لهم أنه لا فرصة لأيٍّ منهم لتحقيق وإنجاح أولوياته العليا إلاِّ عن طريق "داخلٍ مصريٍّ قويٍّ مستقرٍ ومزدهرٍ" . فالذين يحلمون بمشروعٍ قوميٍّ عربيٍّ ناجح عليهم أيضاً أن يؤمنوا أن ذلك لا يتحقق إلاِّ بداخلٍ مصري قوي ، وأصحاب الحلم بأن تلعب مصرُ دوراً إقليمياً أو عالمياً بارزاً عليهم أيضاً أن يعلموا أن ذلك مستحيلٌ بدون داخلٍ مصري قوي مستقر ومزدهر . إن كل الطموحاتِ المصريةِ بشتى أشكالِها وألوانِها وأياً كانت درجة الموافقة عليها أو المخالفة لها لا يمكن إلاِّ أن تمر ببوابةٍ حتميةٍ هي بناء داخل مصري قوي .

ورغم إعجابي بشخصية (محمد علي) الذي جرى العرف على أن يسميه الباحثون والدارسون والكتاب "مؤسس مصر الحديثة" فإن المؤكد أن إنشغال محمد علي في مرحلة ما بأشياءٍ خارج مشروعه الأول وهو بناء داخلٍ مصريٍّ قويٍّ قد أدى إلى نكسةٍ كبرى إستمرت حتى مراحلٍ بعيدة في التدهور . فلو أن (محمد علي) قصر جهوده على إستكمالِ مشروع بناء الداخل لأصبحت مصرُ مؤهلةً (بدون أنشطة خارجية قبل الأوان) أن تلعب الدورَ المحوري الذي تؤهله لها عواملُ الجغرافيا والتاريخ والثقافة . وبالعكس فإن الإصرار على لعب دور آخر غير بناء داخلٍ قويٍّ قد يؤدي إلى تآكل الجهودِ التي تُبذل في الداخل – وما أكثر ما تكرر ذلك في تاريخِ مصر الحديثة .

إن مشكلةَ المشاكلِ بالنسبة لمصرَ هي أن عواملاً عديدةً تغريها دائماً بلعب دورٍ خارج الحدود وليست المشكلة في أنها تقوم بلعب هذا الدور ، ولكن المشكلة أنها تقوم به قبل إستكمال المهمة المقدسة الأولى وهي بناء داخلٍ قوي مستقر ومزدهر ، وهذا التعجل هو ما يؤدي حتماً إلى نتيجتين وخيمتين : الأولى هي فشل جزء كبير من المهمات الخارجية .. وثانياً تأخر كبير في عمليات بناء الداخل .

وإيماني المطلق بأن أهم المهمات تتمثل في تركيز كل الجهود لبناء داخل قوي وعصري ومزدهر ومستقر وفي صلحٍ مع الماضي والحاضر في آنٍ واحدٍ : ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بحملةٍ تتضافر فيها الجهودُ من أجل بناء الداخل عن طريق غرس ونشر وإذاعة وإشاعة قيم التقدم على مستوى القدوة والمثل الأعلى للقيادات في كل موقع وبمحاذاة ذلك عن طريق مؤسسة تعليمية تكون رسالتُها الأولى هي زرع قيم التقدم في عقول وضمائر أبناء وبنات مصرَ كما أن هذه المهمة مستحيلة دون إحداث تغيير جذري في الخطاب الديني (إسلامي كان أو مسيحي) لأن الخطابَ الديني مع الإعلام سيبقيا من أهمِ عواملِ صياغةِ الرأي العام في مصرَ .

إن البعض لدينا يحلم بمصر المثالية في صورة مصر ما قبل 1952 .. والبعض يحلم بها في صورة مصر الناصرية .. والبعض يحلم بها في صورة مصر الساداتية .. والمفكر الذي يلجم عواطفه ولا يشغّل إلا عقلاً صافياً لا يملك إلا أن يقول أننا نريد مما قبل 1952 نوعية الطبقة الوسطى ولكن لا يمكن أن نريد من حقبة ما قبل 1952 ضآلة حجم الطبقة الوسطى وإتساع حجم الطبقات الدنيا (وما كانت تعيش فيه من بؤس مهين لنا جميعاً) .. ونريد من مصر الخمسينات والستينات "الحلم الكبير بتوسعة الطبقة الوسطى" على أن تكون طبقة وسطى تقف على دعاماتٍ إقتصاديةٍ وثقافيةٍ رصينةٍ .. ونريد من الحقبة الساداتية تغليب العقل والحوار في بعض الأمور (وأُكرر: في بعض الأمور) .. وأنا أكتب ذلك من منطلق إيمان ثابت بأن الإنشغال بإدانة الآخرين "مهمة سلبية للغاية" ، فإننا نريد تأثيث صلح بين أصحاب الإتجاهات المختلفة ولا نرى وسيلة لتحقيقه إلا بمشروعٍ متكامل لنشر قيم التقدم ، فهذا هو السبيل الوحيد لأن ننظر بموضوعيةٍ لفترة مثل حقبة محمد علي ونرى المزايا والعيوب دون مبالغة .. وكذلك ننظر للحقبات التالية وننظر للمزايا والعيوب دون المبالغة في المزايا ودون المبالغة في العيوب . وسوف لا يمكنَّا من ذلك إلا جوٌ ثقافيٌّ وتعليميٌّ عام ينجح في غرس قيم التقدم .

إن أكبرَ التحدياتِ التي تواجه مصر الآن تتعلق كلها بالطبقة الوسطى وما حدث وما يحدث لها على مستوى الإقتصاد والتعليم والثقافة حتى أن المفكر يكاد يجزم أنه لا يعرف كيف يُعرّف الطبقة الوسطى اليوم في مصرَ . إن تقدم أي مجتمعٍ من المجتمعات غير مرهونٍ بوجود طبقة عليا على درجةٍ عاليةٍ من الجودة وإنما بنوع وحجم وكيفية مستويات الطبقة الوسطى : وهذا موضوع يتوقف بالكامل على مدى توفر قيم التقدم في الطبقة الوسطى .

وبإختصار ، فإن حل مشكلات مصر هو أمر لا يحققه إلا "مناخٌ عامٌ" مشّرب بقيم التقدم – وعندئذ فإن "دور مصر عبر الحدود" يصبح "حتمية لا يقدر أحدٌ على تجاوزها" لأن كل معطيات التاريخ والجغرافيا والثقافة تقول أن مصر هي الدولةُ العربيةُ والشرقُ أوسطية الوحيدة المؤهلة لدور (الدولة الأكبر) ولكنه دورٌ يحتاج – كما ذكرت – لداخلٍ أكثر تقدماً .