التعليم ... وصناعة المستقبل .

لا شك أن مصر قيادةً وحكومةً وشعباً (ولا سيما الطوائف ذات النصيب الأوفر من التعليم والثقافة) مشغولون (ومنشغلون) بالعمل على أن يكون مستقبلُ هذا الوطن أكثر رخاءً ورفاهيةً واستقراراً واتساماً بالسلام الاجتماعي . ومعنى ذلك أن مصر (قيادةً وحكومةً وشعباً) منشغلة بما يمكن أن نسميه "صناعة المستقبل" . ولا يساورني شك أن معظم أفراد القيادة والحكومة والشعب يعنيهم مستقبل هذا الوطن وأن يكون مستقبلاً متسماً بما ذكرناه من ملامحٍ وصفاتٍ ؛ حتى لو كان الاختلافُ بينهم بالغ الاتساع وعميق الهوة فيما يتعلق بسبل ومناهج وطرق بلوغ ذلك الهدف الذي لا نظن أن هناك خلاف بشأنه (ولا أستثني من ذلك إلاّ الطوائف التي قررت أن تتبنى طروحات تخاصم العصر والعلم وثمار التمدن الإنساني – وهي طوائف تزدهرُ في ظروف المعاناة والتأخر والفقر والظلم كما أنها تندثرُ في ظروف الازدهار والاستقرار والسلام الاجتماعي) . ولكنني رغم تسليمي بحسن نوايا معظم الأطراف المعنية ، أرى أن هناك ما يمكن أن يوصف بأنه خللٌ في الاهتمام والموازنة بين أدوات صنع المستقبل المنشود لهذا الوطن والذي تتضافر فيه عناصرُ الازدهار الاقتصادي والعدل الاجتماعي والاستقرار السياسي والسلام المجتمعي تضافراً ينتج عنه مجتمعٌ صحيٌ تسمح ظروفُه بنوعية حياةٍ أفضل للغالبية العظمى من أبنائه . ففي اعتقادي أن صنع مستقبلٍ أفضلٍ لوطننا يعتمدُ على ثلاثة محاورٍ رئيسيةٍ: محور اقتصادي ومحور سياسي ومحور فكري (تعليمي وثقافي) .

 

أما المحورُ الاقتصادي فيعني أن نتمكن من حل المشكلات العويصة التي اتسمت بها الحياةُ الاقتصادية في مصر خلال السنوات القليلة الماضية كنتيجةٍ حتميةٍ لسياساتٍ اقتصاديةٍ خاطئةٍ وضعت وطبقت في الخمسينات والستينات ، وهي التي أوصلتنا لما بلغناه من ضعفٍ شديدٍ في الإنتاجية وانهيارٍ مروعٍ في نوعية الإدارة والعمالة معاً مع انهيارٍ آخرٍ كبيرٍ في العلاقة التوازنية الحتمية بين (الحقوق) و (الواجبات) .

 

ومنذ سنة 1991 بدأت مرحلةُ مواجهةٍ كبيرةٍ مع أسباب ضعف الاقتصاد المصري . ولا شك أن الكثير قد أُنجز على مستوى الإصلاح المالي ، وأن قدراً غير قليل قد أُنجز أيضاً على مستوى الإصلاح الاقتصادي . ولا يزال الجهدُ متواصلاً (ويجب أن يتواصل) لاستكمال عملية الإصلاح الاقتصادي . ولا شك أيضاً أن الإصلاح الإداري سيكون أحد أكبر التحديات المستقبلية ، فليس من الممكن أن يحدث التطويرُ الاقتصادي المنشود تحت قيادة العناصر التي كُونت إدارياً في ظل عهودٍ سابقةٍ ، فمديرو الأمس لم يكونوا في الحقيقة "مديرين" وإنما كانوا (رؤساء عمل) فقط – وبديهي أن هناك فارق هائل بين (الرئيس في العمل) و(المدير) . ومن المحتم حالياً تقديم ثورة موازية في العناصر البشرية التي يُعهد إليها بالمواقع القيادية ، على أن يكون واضحاً للغاية أنه لا يوجد (مفهوم شرقي) للإدارة في مواجهة (مفهوم غربي) لها ، ولا يوجد (مفهوم عربي) للإدارة في مواجهة (مفهوم أوروبي أو أمريكي) آخر .. . إذ أن الإدارة الفعّالة والخلاّقة لا جنسية لها ، وكل ما هناك هو "إدارة فعّالة" و"إدارة غير فعّالة" . ومن الضروري أن نلمح هنا إلى احتياج المؤسسات الخاصة لتطوير نفسها إدارياً بنفس القدر ، فالافتقارُ لنظم وهياكل وتقنيات ورجال الإدارة العصرية الفعّالة أمرٌ شائعٌ في مصر في القطاعين العام والخاص على السواء – وإن كان الإنصافُ يقتضي الإشارة لوجود عددٍ قليل من المؤسسات الخاصة بدأت منذ سنوات في التحول من مؤسساتٍ يديرها أصحابُها إلى هياكلٍ إداريةٍ عصريةٍ وراقيةٍ وتقوم على وجود نظمٍ وآلياتٍ وسياساتٍ وقواعدٍ هي من أسس النجاح الإداري والاقتصادي لأية مؤسسةٍ خاصةٍ تستهدفُ النمو والتفوق والجودة والمنافسة (لا سيما في مجالات التصدير) . وأما المحورُ السياسي ، فيعني التوسع في التجربة الديموقراطية مع ما يعنيه ويقتضيه ذلك من تعديلاتٍ وتغييراتٍ تساعد على توسعة وتعميق الحياة الديموقراطية والتي لا شك أنها كانت مفقودةً تماماً في الستينات وأنها كانت هزيلةً للغاية في أوائل الثمانينات وأنها الآن أكثر اتساعاً مما كانت عليه منذ عشرين سنة- وإن كانت المسافةُ بين (المتوفر) و(المأمول) لا تزال غير قليلةٍ . ورغم إيمان كاتب هذه السطور العميق بأنه لا مستقبل زاهر ومستقر لمصر بدون تواصل النمو في عملية الإصلاح الاقتصادي وعملية تعميق وتوسيع الهامش الديموقراطي – إلا أنني أعتقد أنهما (رغم أهميتهما القصوى) غيرُ قادرين وحدهما على صنع المستقبل الذي نبتغيه متسماً بالرخاء والرفاهية والاستقرار والسلام الاجتماعي (وأضيف أيضاً: والتواصل الإيجابي والبناء مع مسيرة التمدن الإنساني) . بل وأجزم أننا لو افترضنا حدوث نجاح اقتصادي هائل وتوسعة عظيمة في التجربة الديموقراطية ، فإن ذلك المستقبل المنشود سيبقى غير متحقق لو لم تسر بمحاذاة (القاطرة الاقتصادية) و(القاطرة السياسية) قاطرةٌ ثالثةٌ هي قاطرة إصلاح وتحديث التعليم وفي نفس الوقت قاطرة النهوض بالمستويات الثقافية لشتى طبقات وفئات المجتمع .

 

أما التعليمُ السائد الآن عندنا ، فمما لا شك فيه أنه غيرُ قادرٍ – بأي شكلٍ من الأشكال – على إفراز النوعية البشرية التي تصلح لمواجهة تحديات العصر المختلفة بشكل إيجابي وفعّال . وكاتبُ هذه السطور ليس من المؤمنين بجدوى عمليات الترميم الجزئية التي تواصلت خلال السنوات الأخيرة في المؤسسة التعليمية المصرية . لأننا نرمم "الأعراض" ولا نصلح منابع تلك الأعراض (أي الأمراض) . فالمؤسسةُ التعليمية المصرية تتسم (لا سيما في المراحل قبل الجامعية) بالعيوب الأساسية الكبرى التالية :

•  غلبة (الكم) بشكلٍ جارفٍ على (الكيف) .

•  الإغراق في المحلية والضعف الشديد في الكونية أو العالمية التي تجعل الإنسان أكثر قدرة على معرفة العالم الخارجي ثم التعامل معه .

•  فساد الذوق بشكلٍ عامٍ في المسائل المتعلقة بالأدب والشعر والفن والرواية والقصة .

•  قيام المؤسسة التعليمية على أساس (الحشو) و(حشر المعلومات والمعارف) في رؤوس التلاميذ – وهو أمر لا قيمة له على الإطلاق .

•  وجود جوانب رجعية (محافظة) عديدة تشجع على أن يصير التلاميذ مادة خام صالحة لاستقبال الأفكار المخاصمة للعصر والحضارة والمدنية .

•  خلو البرامج التعليمية من مجموعة القيم الأساسية التي بدونها لا يوجد إنسان عصري صالح للتعامل مع معطيات وحقائق وتحديات العصر ، وأعني قيماً مثل قبول الآخر والقبول الموضوعي للنقد وعدم التعصب والاحترام العميق للخلافات العرقية والدينية والسياسية والفكرية والثقافية وكذلك ترسيخ ثقافة السلام (عوضاً عن ترسيخ ثقافة العدوان) وكذلك بث قيم الحضارة الصناعية العصرية مثل العمل ضمن فريق والإتقان وتوخي الجودة-فمما لا شك فيه أن برامجنا التعليمية (ولاسيما قبل الجامعية) تخلو من كل ذلك وتركز عوضاً عنه على عملية تكديس لا طائل من ورائها للمعلومات في ظل مجموعةٍ أخرى من القيم غير المتقدمة.

 

وكاتبُ هذه السطور والذي يعلم أن العقل المصري المعاصر يميل ميلاً جارفاً للتهوين من حجم المشكلات كما يميل في نفس الوقت للحلول الترميمية مع رفض شبه مطلق لوجهات النظر التي ترى أن مؤسستنا التعليمية لا تحتاج الترميم وإنما إعادة صياغة من الألف إلى الياء – أقول أن كاتب هذه السطور والذي يدرك ذلك جيداً لن يحول ذلك بينه وبين أن يقول أن كل ما يجري حالياً من عمليات ترميمٍ في المؤسسة التعليمية بوجهٍ عامٍ وفي البرامج الدراسية بوجهٍ خاصٍ لن يكون بوسعه أن يقدم لمصر "العناصر البشرية" المطلوبة للسير بالمجتمع بالشكل الذي نتوخاه في ظل الظروف العالمية المعاصرة والمستقبلية . فمن اللازم للغاية أن نقوم بعمليتين في وقتٍ واحدٍ ، أولهما ذات أثر فعّال على المستوى الزمني القصير والمتوسط أما الثانية فذات أثرٍ فعّالٍ على المستوى الزمني المتوسط والبعيد .

 

أما العمليةُ الإصلاحية ذات الأثر السريع على المدى الزمني القصير فتتمثل في عدم الانشغال التام بإصلاح المؤسسات التعليمية كلها في وقت واحد ، وإنما انتقاء مجموعة من المدارس على مستوى الجمهورية قد تمثل ما لا يزيد عن 10% من عدد المدارس الكلي ، ووضع برنامج محدد للرقي بهذه المجموعة المنتقاة على كافة المستويات ، وبالتحديد مستوى المعلمين (المدرسين) ومستوى البرامج التعليمية ومستوى الأبنية التعليمية وما يتبعها من تجهيزات كالمعامل والمكتبات والملاعب الرياضية ومعامل اللغات الأجنبية وأجهزة الكمبيوتر . وتكون هذه المدارس (والتي قد لا تتجاوز 10% من عدد المدارس الكلي) هي نموذج التطوير المنشود . والهدف من الاكتفاء بعدد لا يتجاوز العُشر (10%) هو أن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، بمعنى أن إصلاح كل المدارس في ذات الوقت هي مهمةٌ بالغة الصعوبة والكلفة .

 

ولإثبات استحالة الإصلاح الكلي الفوري ، أكتفي بملاحظتين فقط:

•  العدد الإجمالي للمدرسين في مصر اليوم يبلغ تسعمائة ألف مدرس . فإذا تخيلنا زيادة مرتب المدرس (في المتوسط) بما يعادل ثلاثة آلاف جنيهاً في السنة لتحسين ظروفه المعيشية تحسيناً طفيفاً ، فإن تكلفة ذلك (إذا تم بالنسبة للجميع في وقت واحد) سوف تكون في حدود ثلاثة آلاف مليون جنيهاً (هي تكلفة الزيادة في المرتبات فقط وليس تكلفة المرتبات الإجمالية) .

•  أن التطوير الشامل والكامل للأبنية المدرسية على مستوى الجمهورية ولكل المدارس في نفس الوقت يحتاج لميزانية لا تقل عن خمسين ألف مليون جنيهاً (أي ما يعادل نصف الميزانية الإجمالية للدولة في سنة بأكملها)

 

وهكذا يتضح جلياً أن الحديث عن الإصلاح الكامل والشامل لكل المدارس والمؤسسات التعليمية في وقت واحد هو من ضروب المستحيل ، وكل من يطالب بذلك بشكل فوري وحال فإنه ينطبق عليه المثل المصري بأن من يده في الماء ليس كمن يده في النار . كذلك يدعم المنهج المقترح أنه طبق في العديد من الدول . ففي بريطانيا مثلاً توجد العديد من المدارس العادية ، وهي ذات مستوى متوسط وأحياناً أقل من المتوسط ، ولكن إلى جانبها توجد مراكز التعليم المتميز وهو ما يشبه ما عرفناه في مرحلة ما تحت مسمى مدارس المتفوقين . حيث توجد مدارس هي بمثابة مراكز للتميّز ( Centers of Excellence ) على مستوى المدرس والتلميذ والمباني التعليمية والمكتبات والمعامل والتسهيلات الرياضية والبرامج التعليمية .

 

أما البرنامج الإصلاحي لكامل المؤسسة التعليمية ، والذي هو بطبيعته برنامج طويل المدى ويستحيل أن ينجز بالكامل على المدى الزمني القصير أو المتوسط ، فإنه يحتاج بداية لوضع ورقة استراتيجية تحدد ما الذي نطلبه م المؤسسة التعليمية (لاسيما قبل الجامعية) وما هي الأهداف التي نبغي الوصول إليها . وهنا ، فإن أكبر مشكلة ستواجهنا هي إن معظم برامج التعليم (قبل الجامعي) عندنا اليوم هي برامج إما ضعيفة الصلة أو أحياناً معدومة الصلة بالاحتياجات المجتمعية وفي مقدمتها احتياجات المجتمع الاقتصادي . فالتعليم يستهدف تقديم ما يسمى بالتعليم الحر أي القائم على التعرف على مناطق عديدة من مناطق المعرفة الإنسانية (دون أن يستغرقنا التخصص) ولكن هناك هدف آخر لا يقل أهمية وهو إعداد موارد بشرية ذات مواصفات خاصة تتطلبها الحياة الاقتصادية أي قطاعات العمل الإنتاجي والخدمي .

 

ولا شك عندي أن مؤسستنا التعليمية (وتحت ظروف الستينات والتي كانت مضادة لهذه الأهداف والتي كانت أيضاً تعمل على تخريج "موظفين عموميين" وهم كادر بشري اضمحلت الحاجة اليوم لهم ، ناهيك عن افتقار مؤسستنا التعليمية منذ ذلك العهد لروح التعليم الحر الذي يخلط التعليم بالتثقيف بالاستنارة بغرس قيم الحضارة الحديثة وقيم العمل في ظروف الحياة الاقتصادية المعاصرة) .

 

وسوف نكتشف أننا ونحن نضع هذا التصور الاستراتيجي لهدف أو أهداف العملية التعليمية في حاجة لتخليص المؤسسة التعليمية (وبرامج التعليم) من روح الحشر التي تتسم بها ومن روح التلقين واختبار القدرة على تخزين المعارف ، وهي صفات غير ذات قيمة عالية بالنسبة للإنسان العصري الذي تحتاجه ظروفُ الحياة الاقتصادية المعاصرة .

 

كذلك سنكتشف أن معظم برامجنا الدراسية التي كان من المفروض أن تستهدف تحبيب التلاميذ في العديد من جوانب الإبداع الأدبي والفني قد نجحت في تبغيض التلاميذ في كل ما يُقدم لهم في هذه المجالات نظراً للذوق السقيم الذي اتُصف به من عُهد إليهم باختيار البرامج والنصوص – فهم خلطة ما بين "الموظف العام الخالي من الموهبة والتذوق والإبداع" و"الإنسان المحافظ" كنتيجة طبيعية لظروف تكوينه التعليمي والثقافي والفكري والاجتماعي (فمن الأسهل أن يكون الإنسان محافظاً عن أن يكون تقدمياً وعصرياً ومتحرراً – فالاتجاه الثاني يتطلب قدراً كبيراً من المعرفة والثقافة وأحياناً الذكاء) .