الولايات المتحدة … ومستقبل العالم .

في جلسةِ حوارٍ على شاطئ المحيطِ الأطلسي في أبيدجان وبحضورِ عددٍ من أساتذةِ العلومِ السياسيةِ والشخصياتِ الثقافيةِ المرموقةِ (عالمياً) تمركزَ الحوارُ حولَ تفسيرِ (أو محاولة تفسير) الموقفِ الأمريكي منذُ نهايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ وللآن من عددٍ كبيرٍ من نظمِ الحكمِ الفاسدةِ في العالمِ الثالثِ ، وما أدى إليهِ ذلكَ الموقف الأمريكي من نتائج وخيمة . وعلى سبيلِ المثال ، فقد أيدت الولايات المتحدة رؤساءَ جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية وشاه إيران وعددٍ من النظمِ التي لم يكن هناكَ شك أنها آيلة للسقوط – ولكن الولايات المتحدة كانت دائماً تساندُ الجانبَ الأسوأ . ويضاف إلى هذا (العك الأمريكي) موقف الولايات المتحدة خلال سني الحربِ الباردةِ والذي قام (في عددٍ من الحالاتِ) على مساندةِ الحركاتِ السياسيةِ الأصوليةِ (الثيوقراطية) ظناً من الولايات المتحدة أن هذا المارد (الأصولي) هو الذي سيُلجمُ المارد الآخر (الشيوعي) . وقد أثبتت التجربةُ أن إخراجَ ماردٍ من قمقمهِ لا يمكن أن يعني ضمان عواقب بروزهِ للسطح وإنطلاقه من قيدِ القمقم . ومعلومٌ للكافةِ أن الثورةَ الإيرانية التي أبكت الولايات المتحدة كثيراً كانت في سنواتٍ سابقة في " حضن الولايات المتحدة " إبّان هروبِ الخوميني إلى العراق ثم إنتقل الخوميني (بالتحديد) للحضن الفرنسي ولم يكمل بقاءه في " الحضن الأمريكي " . وفي عددٍ آخرٍ من الحالات ، تم إستعمالُ المارد الثيوقراطي بهدفِ إحداثِ توازنٍ مع ماردٍ آخرٍ . ولعل أشهرَ حالاتِ هذا اللعبِ غيرِ المسئول ، ما وقعَ في مصرَ في أوائلِ السبعينات عندما تم إستعمال المارد الثيوقراطي للحدِ من سطوةِ المارد التابع لمصرَ الستينات – وقد أدى هذا اللعب غير المسئول لقيام الماردِ الثيوقراطي بمأساة المنصة والتي قٌتل فيها أحد الذين أخرجوا المارد الثيوقراطي من قمقمه في مصرَ .

 

ولا شك عندي أن الماردَ الثيوقراطي الفلسطيني قد أُخرج من قمقمه لإحداثِ توازنٍ مع قيادةِ حركةِ فتح للنضالِ الفلسطيني – إلا أن الذين أخرجوه سوفَ يبكونَ طويلاً على تصرفِهم غيرَ العقلاني هذا .

 

وقد إستمرَ الحوارُ طويلاً في محاولةٍ لفهمِ هذا " العبث " في المسلكِ الأمريكي والذي يكاد يتكرر في حالاتٍ أخرى جديدةٍ عديدةٍ كل عام … وكان الذي أوحى بالحوارِ وجودُ المتحدثين في منطقةٍ من العالمِ ضيّعها حكامُها الطغاةُ الفاسدون في ظل تأييدٍ قويٍ من الولايات المتحدة (موبوتو في زائير وغيره في مناطق أخرى مثل سوهارتو في أندونيسيا) . وأذكرُ أنني كنتُ في تفسيري مختلفاً عن معظمِ الحضور ، فبينما ردَ البعضُ الظاهرةَ لضحالةِ الخبرةِ الدوليةِ للولايات المتحدة وبينما رد البعضُ الآخرُ الظاهرة للسيطرةِ اليهوديةِ على المقدراتِ الأمريكيةِ فقد كانت وجهةُ نظري أن المجتمعَ الأمريكي تحكمهُ إعتباراتٌ تتعلقُ بمصالحهِ على المدى الطويل تحتم أن يكونَ النظامُ السياسي في الولاياتِ المتحدة مسانداً للقوى القادرة على إحداثِ تطورٍ تنموي في مجتمعاتها بما في ذلك التطور الديموقراطي والتنمية الإقتصادية لصالحِ الإعتبارات الإجتماعية الأساسية . ولكن بمحاذاةِ هذه الإعتبارات توجدُ إعتباراتٌ أخرى تتعلقُ بمصالحِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ والتي هي في الغالب الأعم مصالحٌ آنية (أي تتعلق بالمدى القصير) بصرفِ النظرِ عما سوفَ يحدثُ على المدى الطويل . وأضفتُ قائلاً : أن تاريخَ سياسة الولايات المتحدة منذ نهايةِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ يتجاذبها هذان الإعتباران فيجذبها أحدهم أحياناً للقيامِ بما يلبي المصالح الآنية للمؤسساتِ الإقتصادية ذاتَ التأثيرِ السياسي القوي (فتحدثُ المآسي التي ضربتُ أمثلةً لها من قبل) وتجذبها (في حالاتٍ قليلةٍ) إعتباراتُ المصالح طويلة المدى ، فتتخذُ الولايات المتحدة مواقفاً تتمشى مع " المُثل العليا " بما يحيرُ الدنيا (مثال : موقف الرئيس الأمريكي أيزنهاور من العدوانِ على مصرَ سنة 1956) .

 

وإذا كانت الإشتراكيةُ العلميةُ قد ماتت بسببِ أنها كانت تحملُ بذورَ فنائها داخلها (عدم القدرة على تحقيقِ النجاحِ الإقتصادي) فإن العالمَ الذي يسمى بالعالمِ الحُر وتقوده اليوم الولايات المتحدة يحملُ أيضاً بذرةً محتملةً لفناءهِ وهي ذلك التناقض المروّع بين المصالحِ الآنيةِ للقوى المؤثرة على القرارِ السياسي الأمريكي والمصالح طويلة المدى للمجتمع الأمريكي (وللعالمِ أيضاً) .

 

وقد ختمتُ وجهةَ النظرِ هذهِ بقولي : أن هناكَ بوارق أمل أن يؤدي المناخ العام الذي ستفرزهُ الطفرةُ التكنولوجية وقفزة تكنولوجيا المعلومات الكونية وما قد (أقول : قد) يحدثُ من تطورٍ إيجابي لمنظومةِ حقوقِ الإنسانِ وحمايةِ البيئة (والتي لا تزال بدائية ومتضاربة التوجهات ومتسمة بعدمِ عدالةٍ مهول) قد يؤدي هذا المناخُ العام لتقويةِ إعتباراتِ المصالحِ طويلةِ المدى والتي طالما أجهضتها المصالحُ الآنيةُ للوحداتِ الإقتصاديةِ ذاتَ التأثيرِ المهولِ على صناعةِ القرارِ السياسي في الولايات المتحدة . كما أنني أضفت : أن هناكَ دوراً مهماً للدولِ المحوريةِ من بين دولِ العالمِ الثالث لتساهم بالإقتناع في تقويةِ هذا المناخ العام المأمول – علماً بأن إستمرارَ إحتقانِ العلاقة بين هذه الدولِ المحوريةِ في العالمِ الثالثِ والولاياتِ المتحدة الأمريكية هو أمرٌ يدعمُ بقاءَ الأحوالِ على ما هي عليه لصالحِ إعتباراتِ المصالحِ الآنيةِ المدمرةِ لسيناريوهات السلام العالمي وهو ما سيكون بمثابةِ الجرثومةِ التي ستدفع العالمَ لصداماتٍ وإحتقاناتٍ وإنفجاراتٍ قد تكون من أسبابِ إنهيارِ الوضعِ العالمي الحالي وإنقلابِ المسرحِ على رؤوسِ أكبرِ لاعبيهِ .

 

وقد ختمَ الحوارَ أستاذٌ فرنسي لامع للعلومِ السياسية بجامعةِ باريس رقم "1" بقوله : إذن فإنَ تراجعَ الولايات المتحدة الأمريكية كليةً عن نظريةِ أن هذهِ النظم الغريبة هي المانع لقدوم الطوفان ، إنما هو الوسيلةُ الوحيدة حقاً لتجنبِ الطوفانِ الذي تعمل المنظومة الحالية على تجنبهِ بالوسائلِ الكفيلةِ بالتعجيلِ بقدومهِ !