ثقافةُ الإنكارِ.... وثقافةُ الإعترافِ .

كتبتُ كثيراً عن ثقافةِ الإنكارِ (Culture of Denial) الشائعة في حياتنا والذائعة في واقعنا. ومن ترجمات هذه الثقافة(لواقع) أن تنكر حكومتُنا المتعاقبةُ (وأذرعها الإعلامية) وينكر ممثلوها العديدَ من المشكلاتِ والظواهر والعيوب والتجاوزات والأوضاع... وإذا كان "العقلُ النقدي" هو أساسَ الحضارةِ الغربيةِ (أي أساس الحضارة الإنسانية في أحدث أطوارها)... فإن العقلَ النقدي يلزمنا بنسف "ثقافة الإنكار" وتحفيز البديل الحضاري البنَّاء أي "ثقافة الإعتراف". وهذا المقال، هو أول سلسلة من مقالات تُثير أسئلة هدفها تحريك "مياه ذهنية الإنكار الراكدة والآسنة"- فكما نكرر دائماً... فإن الأسئلةَ "مبصرةٌ" والأجوبةَ "عمياءٌ".

 

# جاء في الصفحة الاولى من صحيفة الأهرام الصادرة يوم 16 يونية الجاري ما يلي: قررت لجنةُ شئون الأحزاب برئاسة السيد/ صفوت الشريف... أمس... اعتماد فوز الدكتور محمود اباظة برئاسة حزب الوفد (!!) متى نعترف بأن هذا الأمر "هزلٌ مثيرٌ للغثيان".. وأنها "إجراءات ديمقراطية" لا علاقة لها بالديمقراطية... بل أنها مثالٌ قاطعٌ على أن آليات الديمقراطية يمكن أن توجد دون توفر "ذرة واحدة من الديمقراطية". فمتي نعترف بأن هذا "هزلٌ ثقيلُ الظلِ إلي أبعد أمدٍ يمكن تصوره"؟... متي نعترف أن السيد/ صفوت الشريف (أمين عام الحزب الوطني) ليس آلة كومبيوتر بحيث يكون بوسعه أن يغلق ملف كونه (أمين عام الحزب الوطني) ويفتح ملف كونه (رئيس لجنة شؤون الأحزاب السياسية بمجلس الشورى )؟.. ومتى نعترف أن واقعنا لا يسمح (سياسياً وثقافياً) بالحياد الذي يزعمه البعضُ... فالحديث عن حياد وزارة الإعلام وحياد وزارة الداخلية في منافسة بين (كبير في السلطة) و(رجل من خارج المنظومة) هو أيضاً (هزلٌ وعبثٌ واستهانةٌ كبري بعقولِ وكرامةِ الناس)... إن الصحفَ المُسماة بالقوميةِ تفرد لقادة الحزب الوطني من المساحة (والإهتمام) ما لا تعطي واحدة في المائة منه لكل الأحزاب الأخري مجتمعة. فمتى نعترف بأن هذا (هزل صرف) ونبدأ البحث في بدائل جادة تجعل العالم (وشعبنا قبل العالم) يصدق أن لدينا "هامش ديمقراطي نحيل وضئيل"؟

 

# متى نشن حملة مواجهة مع النفسِ حول مشروع توشكي؟... متى نعرض على الرأي العام الطريقة التي شرعت بها الحكومة (بكل حماس) في تنفيذ هذا المشروع... وكيف كانت هناك معارضات علمية وفنية وإقتصادية (مثل دراسة المهندس/ محمد سامي عبد القوي) تم تجاهلها بالكليةِ في خضم الحماس المصري المعهود لكل ما يأتي "من السماء". متى نعرف الأرقام الحقيقية التي أُنفقت؟... متي نعرف لماذا فتر الحماس...؟... متى نعرف ما إذا كان "المشروع العملاق" لا يزال حياً أم فارق الحياة؟.... متى نعرف هل تحمس ملايين المصريين (الذين قيل أنهم سيشدون الرحال إلي توشكي) للمشروع أم أن العكس هو ما كان؟... متى نعرف رأي العلماء في أن مشروعاً ما ليست له جدوي إقتصادية إلا أن له جدوي إجتماعية؟

 

# متى نعترف أن ما أنفقناه على "الإعلام المصري" خلال ربع القرن الأخير لم يؤت 1% من الثمار التي كان بوسع المبالغ التي أُنفقت على الإعلام المصري أن تؤتيه؟... لقد أنفقنا أكثر من ربع مليار دولار على (شراء وليس تصنيع) قمرين صناعيين ثم إستكثرنا أقل من عشرة ملايين على شراء حق إذاعة مباريات كأس العالم، لأن ضميرنا "سيوجعنا" إذا أنفقنا هذا المبلغ على أمور غير إنشاء المدارس(!!!)... متي نعترف أن هذا "هزل" تضحك (وتبكي) من هوله الجبار الصم!؟

 

# متى تعرف حكومتنا (وتعترف) أن شعبية الإخوان لها ثلاثة مصادر:شرف الإسم الذي يحملونه... النقص المذهل في كفاءةِ حكوماتنا المتعاقبة... ثم "نزاهة الإخوان" (وهي نزاهة نظرية لمجموعةٍ لم تختبر كما إختبرت حكومتنا المتعاقبة وفشلت أكبر فشل وأخفقت أوسع إخفاق...؟).

 

# متى يعترف "الإخوان المسلمون" أنهم "حركة" وليست "حزب" بالمعني العلمي والعصري... وأن الذي يحول بينهم وبين هذا "التطورالناقص" هو عدم وصولهم لمرحلة من الرقي الذهني تجعلهم قادريين علي أن يعلنوا أنهم حزب سياسي عصري يستمد قيمه من قيم الإسلام.... دون هذا الكلام القرون أوسطي عن "نظرية الحاكمية" التي مظهرها رائع وجوهرها "ثيوقراطية مقيتة"؟؟؟ متي يتحرك جيل من الإخوان المسلمين الشباب المتعلمين والمثقفين صوب هذا الطور الأرقى من "الذهنية الإسلامية"؟

 

# متى تعترف الحكومة أن وجودَ قواتِ أمن كافية وذات كفاءة لمنع انقلاب الأمور وحدوث الفوضي التي ستقوض حياتنا بشكل كلي هو أمر (شرعي) ولكنه أمر مخالف "تماماً" لفرط استعمال القوة بالشكل الباطش واللا قانوني واللا إنساني واللا حضاري الذي شاهدته(وشهدت عليه) شوارع القاهرة خلال العام المنصرم؟

 

# متى نعترف بأن السلطة التنفيذية (في واقعنا) قد إلتهمت (وهضمت) السلطة التشريعية وأنها غاضبة (ومتنرفزة!) لأن أطرافاً (فعالة) من جسد وعقل السلطة القضائية تأبي أن تلتهم وتهضم (أسوة بالسلطة التشريعية)؟؟

 

# متى نعترف بأن الصحف المُسماه بالقومية هي "إدارات حكومية يشعر رؤوساؤها بقدر من الأمتنان لمن وظفوهم " وأنها لا علاقة لها (أطلاقاً) بالصحافة العصرية التي تملك رؤيتها وإرادتها (ناهيك عن شجاعتها)؟؟

 

# متى نعترف بأن "المسافة" بين "المستثمريين" و"الهيئات التشريعية والتنفيذية" (في واقعنا) هي "أقصر" بكثير مما يجب أن تكون عليه في أي مجتمع ديمقراطي؟... أنني أكتب هذا وأنا آخر (أو من آخر) من يمكن اتهامهم بالإشتراكية... فإيماني بالحرية السياسية والإقتصادية بلا حد... ولكن هذا أمر... وحالة "التقارب المريبة" بين "المستثمريين" و"الهيئات التشريعية والتنفيذية" أمرٌ آخرٌ... بل وأمرٌ مرفوضٌ ومعارضٌ بالكليةِ لكافة تجارب المجتمعات المزدهرة على أساس من الحرية السياسية والحرية الإقتصادية. إن من حق المستثمريين أن يجدوا "أفضل بيئة عمل" لمشروعاتهم... ولكن ليس من حقهم أن يضعوا "قواعد اللعبة"... لأنهم إن فعلوا، وضعوا أسس حرب أهلية.

 

# متى نعترف بأنه في ظل اتفاق شبه كامل على أن مؤسستنا التعليمية تفرز خرجيين وخريجات لا يصلحون لتحديات العصر... فإن حكوماتنا المتعاقبة لا تزال تفهم "تطوير التعليم" على أساس كونه عملية تشييد مباني تعليمية جديدة (أي الإستثمار في الحجر لا في البشر)؟....

 

# متى نعترف بأن واقعَنا غير منصف مع غير المسلمين من أبناءه... وأنه أيضاً غير منصف مع أبناءه النوبيين؟.... متي نكف عن المعالجة السطحية لهذا "الجرح الكبير في جنب الوطن"؟... متى نعترف أن الجو العام المحيط بغير المسلميين من أبناء مصر هو جو مفعم (في كثير من الحالات) بالمشاعر والحقائق والمواقف الرديئة... متى نخرج من أدراج الحكومة تقرير الدكتور/ جمال العطيفي (الذي لا تزال حكوماتنا المتعاقبة تتجاهله منذ ثلاثين سنة) ونعرضه للحوار على كافة المستويات المناسبة لعلاج العلة من جذورها؟...

 

# متى نعترف بأن تعاملنا مع الفساد (والذي هو ظاهرة موجودة في أية جماعة إنسانية) هو تعامل مشوب بعيبين لا تقل خطورتهما عن خطورة الفساد نفسه: الإنتقائية ثم استعمال محاربة الفساد كأداة إنتقام سياسي... وفي ظني أن 99% من المصريين يؤمنون بأن محاربة الفساد في مصر أصبحت مشوبة بهذين البعدين أو بأحدهما... وهي جريمة متعددة الأبعاد لأنها ستخلق أجيالاً لا تجد وازعاً أخلاقياً أو وطنياً لمحاربة الفساد.... وربما تراه (أي الفساد) كأحد معلام (أو دلالات) الوجاهة المجتمعية!

 

# متى تعرف الشعوب العربية فداحة حجم الأخطاء التي ارتكبتها النظم العربية الحاكمة (أو بعض هذه النظم) عندما لم تعترف بقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة في شهر نوفمبر سنة 1947 ...؟... ومتى تعرف نفس الشعوب فداحة حجم الخطأ الذي اقترف خلال شهري مايو ويونيه 1967 ولاتزال للآن "نزحف" لتدارك بعض المصائب التي جرّها على الشعوب العربية هذا الخطأ؟... ومتى نعرف أن "حركة حماس" قد طعنت "جنين الديمقراطية العربية" في القلب عندما جاءت للحكم (بطريقة ديمقراطية) لتبدأ مسيرتها بقرار (فادح الخطأ) غير ديمقراطي هو عدم إعلانها احترامها لكل ما ألتزمت به الحكومات الفلسطينية السابقة؟...

وفي المقالات التالية عشرات الأسئلة التي لن نقف على "عتبة" بوابة "حل مشاكلنا" إن لم نُثيرها ونُجيب عليها بأمانةٍ وبتحدٍ للصكوك (السيتريوتايب) الشائعة في واقعنا.