صور ورجال ومفارقات.

 

(1)

تعرفتُ عليه منذ عشرين سنة. وخلال هذين العقدين من الزمان أمضيتُ مئات الساعات معه في المدينة أو حيث يهوى (أي في الصحراء). خلال هذه اللقاءات التي لا تُحصى تحدثنا في عشراتِ المواضيع: تحدثنا عن تاريخ حزب الوفد بوجه عام .. ومسيرة الوفد بعد خروج مكرم عبيد منه بوجه خاص. تحدثنا عن علاقته بمكرم عبيد وحزب الكتلة الوفدية .. ولما كان كلٌ منا يحفظ آلاف القصائد وعشرات الآلاف من أبيات الشعر العربي ، فقد شغل الشعرُ العربي بوجهٍ عام وشعرُه هو بوجه خاص ساعاتٍ يصعب علىَّ الآن تقديرُ عددها. تحدثنا كثيراً عن تفاصيل المسائل اللاهوتية وتاريخ المسيحية في مصر وبطاركة الكنيسة المرقسية وتاريخ المجامع المقدسة لاسيما التي تنتهي بمجمع خلقيدونية (451م). وما أكثر ما مشينا سوياً في صحراء وادي النطرون بين المزارع وعلى حافة البحيرات التي تُربى فيها الأسماك في هذه المنطقة التي لا يعرف كثيرون معنى أسمها (وادي النطرون) أي (وادي الملح) كما لا يعرف كثيرون أسمها الأصلي (برية شيهيت) وشيهيت تعني بالقبطية (أي باللغة المصرية القديمة في آخر أَطوارها) "ميزان القلوب". تذكرته خلال الأسبوعين الماضيين وقدّرت حجم آلامه: فهو مصري للنخاع ولكنه في نفس الوقت كبيرُ عشرة ملايين مصري يتعرضون لمناخٍ عامٍ تتزايد فيه روح التعصب ضدهم في تصاعدٍ مستمرٍ منذ ستين سنة .. فروح التعصب التي يعانون منها هي الوجه الآخر لتراجع مصر المدنية وتقدم الأفكار الأسلاموية. أنهم أصحابُ هذا الوطن الأصليون .. ومع ذلك .. فإن عليهم أن يطالبوا بحقِ المواطنةِ الكاملةِ (!!). أنهم الأقباط مصدر كلمة (إيجيبت) في كل اللغات بإستثناء العربية (مصر) والتركية (مصر) والعبرية (مصراييم). أي همٍ ثقيلٍ هذا الذي يعتري قلب رجلٍ مثله يريد أن يقيم التوازن الحتمي بين مصريته وقبطيته في مواجهة ريحٍ غوغائيةٍ همجيةٍ قرون-أوسطية ؛ وفي مواجهة سلبيةٍ مذهلةٍ من عددٍ كبيرٍ من الشخصياتِ العامة التي ترى الجرح والألم وتظل تردد: "أن لا مشكلة كبيرة في هذا المجال".

 

أنه الصديق الأكبر البابا شنودة الثالث أحد أهرامات هذا الوطن الشامخ: مصر.

 

 

(2)

 

كنت في العاصمة الأردنية عمان .. وكان موعدي مع الأميرة بسمة بنت طلال (شقيقة الملك وقتئذٍ وإبنه ملك الأردن الأسبق طلال بن عبد الله) قد حان. عندما أنفتح باب المصعد وجدت أمامي فتاة في منتصف العمر نحيلة سمراء ذات وجه مبتسم ومرحب. ظننتها سكرتيرة الأميرة. سرتُ معها حتى غرفة إستقبال ملحقة بمكتب الأميرة بسمة. جلست معي الفتاة السمراء فسألتها: "هل الأميرة مشغولة؟؟" .. فقالت لي: "أنا بسمة" !!!! ‍‍‍‍‍‍‍(والقصة لا تحتاج لأية إيضاحات).

 

(3)

 

جلستُ على يمين الوزيرة كونداليزا رايس يوم 22 فبراير الماضي (2006) .. بدأتُ حديثي معها يومئذٍ (فقد إستقبلتني في مكتبها في العاصمة الأمريكية أكثر من مرة) بدعابة حول ما قاله آريل شارون عن ساقيها !! فوجئتْ هي بأنني أعرفُ نص الكلمات التي قالها شارون كما فوجئت بمعرفتي بخلفية والدها كقسيس .. كما فوجئت أنا بأنها (مثل كل امرأة) صدقت شارون وصدقتني؟ بل وأضافت (مؤكدة أنها صدقت شارون وصدقتني) أنها ارتدت اليوم سروالاً واسعاً لأنها في آخر النهار ستقابل الملك عبد الله في الرياض (!!!) ثم همست في أذني بقصة حدثت لأمير عربي منذ سنوات في المغرب أرادت هي أن تحتاط من مثل ما حدث فيها (!!!).

 

(4)

 

هل يجرؤ كاتب عربي أن يكتب للقراءِ عن لقاءه برئيس إسرائيل؟! .. أغلب الظن أن عددَ الذين يجرؤن على ذلك لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة. فالحديثُ بلغة الوهم (عوض لغة الواقع) وترديد شعارات القبيلة الصحراوية (في غير زمانها) والإزدواجية والتباين بين الأقوال والأفعال ناهيك عن إزدواجية الأقوال (بين السر والعلن) أمراضٌ شاعت وذاعت في واقعنا. ولكنني أكتب (بدون ذرة تردد) عن لقاء طويل لي بالرئيس الإسرائيلي الأسبق عزرا وايزمان. ولكن دعوني أفجر بعض الإنشطاريات قبيل أن أكتب لكم عن هذا اللقاء: ذهب أمين عام جامعة الدول العربية منذ أكثر قليلاً من سنة واحدة لجناح السيد شيمون بيريز في دافوس (السويسرية) وقال له: ثق يا سيد بيريز أنه بمجرد تسوية المسألة الفلسطينية/الإسرائيلية فإن الجامعة العربية ستتجه بكليتها للتطبيع على كافة المستويات!! خلال نفس المؤتمر ، ذهب مصري مشهور (جداً جداً) وقال لشيمون بيريز نفس الكلمات تقريباً. والسؤال هو: ما معنى تلك الإزدواجية في حياتنا السياسية والعامة والثقافية؟ أما أنا فأقول أن شيمون بيريز هو الذي حكى لي شخصياً عن هذين الإجتماعين مع هاتين الشخصيتين المصريتين المعروفتين. وأضيف (لزيادة الطينة بلة عند من يلبسهم شيطان الذعر من كلمة لقاء مع إسرائيلي) أنني دخلت منذ سنوات جناح بفندق في أوروبا لأقابل السيد عزرا وايزمان الذي كان وقت المقابلة رئيساً لدولة إسرائيل ، فوجدت على مكتبه في الجناح صورة أنور السادات وصورة إبنه الوحيد الذي مات بعد إصابته في حرب الإستنزاف مع مصر. سألته يومئذٍ: تقول المراجع العربية أن مصر إنتصرت في حرب أكتوبر 1973 وتقول المراجع المنشورة باللغات الأوروبية أن إسرائيل هي التي (في النهاية) إنتصرت – فما هو تعليقك على ذلك التضارب؟ .. كان رد عزرا وايزمان كالتالي: "في حدود أن السادات كان يعرف تماماً محدودية آلته العسكرية في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية في أكتوبر 1973 وبالنظر للهدف الذي وضعه بناء على ذلك وعلى ضوء العملية المعجزية للعبور ، فإن السادات قد إنتصر .. أما إذا إفترضت لحرب أكتوبر أهدافاً أخرى لم تكن في ذهن السادات ، فربما تختلف النتيجة ويختلف الحكم. ثم أضاف أن أنور السادات هو أحد أعظم أصحاب الرؤية الإستراتيجية في القرن العشرين .. علقت على كلماته بكلماتٍ أزعجته .. قلت: "أوافقك على أن قراءة السادات لمسرح العالم السياسي والقوى الكبرى كانت قراءة واقعية بالغة الدقة. لقد رأى السادات نهاية الحرب الباردة وزوال القوة العظمى الثانية قبل حدوث ذلك .. ولو عاش السادات لفهم عالم ما بعد الحرب الباردة فهماً دقيقاً وصائباً على خلاف معظم العرب .. ولكن السادات داخلياً قد أحدث لمصرَ جروحاً بالغة العمق والضرر. لقد كرر السادات ما فعلته أمريكا مع الأصولية الأسلامية. فكما كانت أمريكا بمثابة من أطلق النار على قدمه عندما أنتجت أسامة بن لادن فإن السادات قد تفوق على أمريكا في هذا المجال: مجال الإضرار بالذات .. عندما سقط على الأرض قتيلاً مدرجاً في دمائه من طلقاتٍ ناريةٍ أطلقها عليه بعض الذين فتح لهم المجال ليحدثوا توازناً مع الناصريين واليساريين بناء على نصائح كمال أدهم (رئيس المخابرات السعودية الأسبق وشقيق عفت قرينة الملك فيصل) ناهيك عن نصائح صهره المقاول الذي كان – لسنوات طويلة - الصدر الأرحب للأخوان المسلمين في مصر وغيرها. ولابد أن نضيف لذلك سطحية وبساطة فهم السادات لإقتصاد السوق .. وهي السطحية التي تمثلها كلماتُه المعروفة لرجلٍ أمي في الإسكندرية أسمه رشاد عثمان عندما قال له السادات: "الإسكندرية أمانة في يدك يا رشاد".

(5)

 

في يوم 4 إبريل 2005 تناولتُ الغداء مع الجنرال ميشيل عون – بدعوةٍ منه- بمنزلِه الباريسي وكان ذلك قبيل عودته لبيروت بخمسة أسابيع. في هذا اللقاء حدثني الجنرال عون طويلاً عن رأيه السلبي في سوريا وحزب الله وحركة أمل. ولم يُثر تعجبي شئ مما قاله لأن تلك الآراء كانت متسقة مع ماضي الجنرال الذي وجه مدافعه (في معركةٍ كانت تجسيداً واقعياً لأفكاره السياسية) للقوات السورية في لبنان إبان الفترة التي كان فيها الجنرال عون هو الحاكم الفعلي للبنان بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين جميل. في هذا اللقاء الأخير مع الجنرال عون بشقته الباريسية يوم 4 إبريل 2005 سألني الجنرال عن وجهة نظري في المسألة اللبنانية. أذكرُ أنني لخصتُ له وجهة نظري في النقاط التالية:

 

• ¨ ضرورة أن تُقاد (أو تقنع) سوريا للإعتراف النظري والعملي بأن لبنان بلدٌ آخر. ويعني ذلك خروج كل القوات العسكرية والمنظمات الأمنية السورية من لبنان وترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ووجود سفير سوري في بيروت وسفير لبناني في دمشق لأن خلافَ ذلك يعني أن سوريا مستمرةٌ في النظرِ إلى لبنان ككبش شاردٍ من القطيع السوري – وهو ما لا يليق بمقام لبنان الأعلى.

• ¨ إن على العالم (ممثلاً في الشرعية الدولية) أن يصل إلى طريقة لدمج قوات حزب الله في الجيش اللبناني لأن لبنان لن تكون دولة عصرية إلاَّ إذا كان بها قرار سياسي واحد وجهاز عسكري واحد. كذلك يجب أن تنتهي مظاهر وجود دولة داخل الدولة اللبنانية. فكما كانت القوات الفلسطينية- منذ ثلاثين سنة تتصرف وكأنها دولة مستقلة داخل لبنان ؛ فإن حزب الله يفعل اليوم نفس الشيء. أليس من المضحك أن يقوم حزبٌ بعملِ استعراضٍ عسكري لقواته وسط العاصمة بدون أن تكون تلك القوات تحت إمرة القرار السياسي الواحد؟؟.

• ¨ لابد من الوصول إلى صيغةٍ ترفع يد إيران عن لبنان مثلما يجب رفع يد سوريا عن لبنان.

• ¨ يجب أن تصدر الحكومة اللبنانية قراراً بأن حل مشكلات مزارع شبعا سيكون بالتفاوض أو التحكيم وليس بالعنف- فمزارع شبعا تشبه منطقة طابا في الحجم والأهمية ولا يمكن استمرار استعمالها كمعبر لوجود دولة (دولة حزب الله) داخل الدولة اللبنانية.

 

• ¨ لابد من جذب المعتدلين من اللبنانية السُنة (وهم أكثرية) ومن الشيعة اللبنانية (وهم عدد لا يستهان به) لصف المجتمع المدني.

 

كان تعليق الجنرال عون (وقد حدث ذلك بحضور الإعلامي اللبناني بيير عقل): أن نقاطك الخمسة تلخص تماماً وجهة نظري أنا أيضاً في المسألة اللبنانية". تذكرت هذا الجزء من الحوار منذ أيام … فظهرت أمام ناظري عشرات من علامات الاستفهام والتعجب.

 

(6)

 

منذ أسابيعٍ قليلةٍ وفي خيمةٍ بحدائقِ قصرِ الوجبة بالعاصمةِ القطريةِ الدوحة ، كنت واحداً من خمسةٍ حول مائدة العشاء: أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني .. الشيخة موزة بنت ناصر المسند قرينة الأمير .. وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني .. والدكتور سعد الدين إبراهيم .. ثم أنا. إستمر العشاءُ (وحوار العشاء) أكثر من أربع ساعات .. لم يدخل الخيمةَ خلالها إلاِّ الرجل الذي تكرر دخوله ست مراتٍ. ظننت أنه سكرتير الأمير أو رئيس مخابراته لأنه كان يقترب من الأمير ويهمس في إذنِه بكلماتٍ ثم يستمع لتعليق الأمير ويرحل ، ليعود(‍!). سألت وزيرَ خارجية قطر (عندما دخل ذات الرجل للخيمة للمرة الثالثة) .. "لا شك أنه سكرتير الأمير"؟! .. قال: "لا" .. قلت: "رئيس المخابرات"؟ .. قال: "لا .. أنه "وضاح خنفر" مدير قناة الجزيرة. تأملت طويلاً في معنى ما حدث!! خلصتُ إلى أن الجزيرة التي تكلف أمير قطر مليار دولار أمريكي سنوياً هي الأهم في قائمة أولويات الأمير .. فهي تحظى (من قطر) بدعمٍ مادي يعادل المعونة الأمريكية العسكرية لأكبر جيش عربي (!!!!) .. وهي تحظى من الأمير شخصياً بإهتمامٍ يجعل السيد خنفر (فلسطيني من أتباع حماس سابقاً) يكون لديه في مقام رئيس الوزراء أو مدير الديوان الأميري أو رئيس المخابرات .. بل أكثر من كل ذلك، فهو الوحيد الذي إقتحم علينا الخيمة ست مرات أثناء جلسةٍ واحدةٍ. سمعتُ بعد ذلك إن كاتباً مصرياً كبيراً يستشيره أمير قطر قال له أن عليك أن تفكر في إغلاق قطر قبل أن تفكر في إغلاق الجزيرة !! (هل هذا مدح .. أم قدح ..؟!). في هذه الجلسة قال لي أمير قطر أن سياسته الخارجية تقوم على الأسس البسيطة التالية: أنه وقطر يعانيان من صغر الحجم وقلة عدد السكان .. كما أنهما محاطان بثلاثة "قبضايات" (فتوات – باللهجة المصرية) حسب كلمات الأمير شخصياً … وقد قرر أن يأتي بأكبر قبضاي في العالم (أي الولايات المتحدة) لتجلس طرفه وعلى نفقته ولحمايته من القبضايات الثلاثة المجاورين. قلت له: أنني أستطيع أن أفهم ذلك ولكن أين تقع الجزيرة وسط هذه المعادلة التي تقوم على حسابات المصالح البحتة ؟؟!! … قال الأمير رداً عن سؤالي كلاماً كثيراً خلاصته أنه معجبٌ بلعبةِ أن رؤساء الدول يتصلون به للشكوى من الجزيرة أضعاف ما يتصلون به لأي سببٍ آخر. لم يكن ذلك كافياً لدي .. ولازلت أظن أن في مثلث قيادة قطر هناك أشياء ظهرت (مثل إنقلاب 1995) وأشياء لم تظهر بعد وإن كنت أستطيع (بيني وبين نفسي) أن أتلمس شكلها وإتجاهها وحجمها وأثرها.. وأكاد أجزم بأنها ستكون أكبر من متغيرات 1995 في قطر.

 

(7)

 

عرفتُ هاني عنان في سنة حصولنا على الثانوية العامة (1967). خلال ما يقل قليلاً عن أربعين سنة لم ألمس أي تغييرٍ في إخلاصه للشأن العام ورفضه للطريقة الرديئة التي يُدار بها مجتمعنا. كان منذ سنوات طويلة يؤمنُ أن حل معضلاتِ واقعنا يأتي من "خزانة الإشتراكية". أما اليوم ، فهو (مثلي) لا يؤمن ألاِّ بالعلم والإدارة وقبلهما وبعدهما بالديمقراطية. ألتقي عنده بين الحين والآخر بشاعر العامية المصرية الفذ (أحمد فؤاد نجم) الذي أحفظ معظم أشعاره وأكتشفت منذ سنوات قليلة فقط ثراء محصوله الثقافي. في بيت هاني عنان وبحضور أحمد فؤاد نجم سألنا فؤاد نجم عن "خلاصة القضية" .. فرد علينا بأبياتٍ من شعره سمعناها منه في سنة 1968:

 

قل أعوذو - مَدّ بوزه

الجبان - إبن الجبانة

كَلْ غدانا - قام لقانا

شعب طيب - كل عشانا