مساران تاريخيان .

فى أول سبتمبر 1939 إ ندلعت الحرب ُ العالمية الثانية (والتى يمكن وصفها بأنها كانت أكبر َ حرب ٍ فى تاريخ ِ ال إ نسانية) . إ ندلعت الحرب ُ بين جانبين ، الأول هو " المحور " والذى كان يضم أ لمانيا النازية و إ يطاليا الفاشية واليابان الديكتاتورية وهى ثلاث دول لم تكن تؤمن ب ال ديموقراطية حسب تعريفاتها في باقي الدول الغربية (بريطانيا ,فرنسا ,دول أسكندنا?يا ,الولايات المتحدة) . و على الجانب الآخر كان فريق " الحلفاء " . ويمكن القول بأن فريق َ الحلفاء ِ كان شديد َ عدم ِ التجانس : فبينما ضم دول اً ديموقراطية (بالتعريف الغربى) هى الولايات المتحدة وبريطانيا وآخرين، فقد ضم أيضاً ال إ تحاد السوفيتى والذى كان نظاما ديكتاتوري اً بكل معانى الكلمة ، وب إ عتراف النظام ذاته الذى كان يصف نفَسه بأنه "ديكتاتورية بروليتاري ة " ... وقد إ نتهت الحرب ُ العالمية الثانية بتدمير ِ أ عضاء ِ المحور الثلاثة الكبار: إ يطاليا ثم أ لمانيا ثم اليابان التى سقطت كآخر أعضاء معسكر المحور بضربتين ذريتين على مدينتى هيروشيما ونجازاكى فى شهر أغسطس 1945.

 

ولكن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت بداية صراع آخر من الحجم الكبير وهو الصراع الذى سمى بالحرب الباردة . فلما كان ال إ تحاد السوفيتى قد إ لتحق أ ثناء الحرب العالمية الثانية بمعسكر الحلفاء ، فقد كان من الصعب أ ن يدير باقي الحلفاء – عند نهاية الحرب - ظهورهم لشؤيكهم الشيوعي في الحرب ويبدأون حرباً تقليدية ضد ال إ تحاد السو?يتى الذى - و إ ن كان مناقضا لها فى كل شىء سياسي اً و إ قتصادي اً – إ لا أ نه كان حليفها (بالغ الأهمية) ابان سنى الحرب العالمية الثانية.

 

ما أ ن إ نتهت الحرب ُ العالمية الثانية حتى أ صبح " حلفاء الامس " هم " فرقاء اليوم " : فالولايات المتحدة ومعها بريطانيا وما سمى بعد ذلك بدول أ وروبا الغربية وجد وا أنفسهم فى مواجهة مع حليف ال أ مس (ال إ تحاد السوفيتى) الذى خرج من الحرب العالمية الثانية أ قوى و أ وسع وأكثر نفوذاً .

 

ويهمنى هنا أن أ ركز على وصف صورة العالم عند نهاية الحرب العالمية الثانية إ ذ أ ن هذه الصورة هى "منبع" المزاجين والمسارين والخيارين التاريخيين الذين يتناوله م ا هذا المقال. كان ال إ تحاد السوفيتى قبل إ ندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 منحصر اًً داخل حدوده و إ ن كان على صلة أ بوية (بطريركية) بالحركات الشيوعية فى العالم من خلال التنظيم الذى كان السوفيت قد أَ نشأوه لغرض مناصرة الحركات الشيوعية فى العالم وهو التنظيم الذى كان يسمى "الكومنترن". ولكن عملية الهزيمة العسكرية لدولتين بالذات هما أ لمانيا واليابان قد خلقت مسرح عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فى أ وروبا أ خذ الجيش ال أ لمانى فى التراجع غرب اً بعدما كان على أ بواب ستالينجراد . ويمكن القول ببعض التبسيط أ نه فى مواجهه تحرك (تقهقر) الجيش ال أ لمانى من الشرق إ لى الغرب كان الجيش السوفيتى يتقدم : أ ول اً داخل حدود ال إ تحاد السوفيتى .. ثم فى دول أ خرى هى التى عرفت بعد ذلك ب دول حلف وارسو (الكوميكون) أ و دول أ وروبا الشرقية أ و دول ما وراء الستار الحديدى. بمعنى أ ن كل الاراضى التى دفع فوقها الجيش السوفيتى الجيش الالمانى للخلف صارت مناطق نفوذ جديدة لل إ تحاد السوفيتى وما يمثله من أ قطار ونظم سياسية و إ قتصادية. و من جراء إ نسحاب ال أ لمان للغرب، تكونت أ وروبا الشرقية التى صارت دولها كوكباً تدور فى فلك ال إ تحاد السوفيتى. وقد تكررت ذات العملية فى آ سيا : فبينما أ خذ الجيش اليابانى فى التراجع والتقهقر وال إ نسحاب من أ راض ِ شاسعة خارج حدود اليابان، أ خذت ال أ حزاب الشيوعية فى كل تلك المناطق فى إ ستلام الفراغ الناتج عن إ نسحاب الجيش اليابانى.

 

ورغم أن ذلك حدث فى أ كثر من دولة (كوريا ... فيتنام ... لاوس ... كمبوديا ... منغوليا) إ لا أ ن أ كبر مثال (و أ هم مثال) كان ما فعله ماوتسى تونج فى الصين : إ ذ أ خذ (ومن وراءه فلول أَتباعه الشيوعيين ) يتقدمون ليحل ّ وا محل القوات اليابانية المنسحبة ويكتسوحون أ مامهم البديل الصينى غير الشيوعى بقيادة ( تشينج كاي-شيك ) الذى إ نسحب من كل أ رض الصين وتمركز فى جزيرة فيرموزا والتى كانت فى إ عتبار العالم الغربى لسنوات هى الصين الرسمية وليس العملاق الكبير بسكانه الذين بلغوا نحو مليار نسمة .

 

وهكذا، بينما خرج ما يسمى بالعالم الحر من الحرب العالية الثانية منتصر اً على أع دا ءه ، ف إ ن مكاسب ال إ تحاد السوفيتى كانت أ كبر َ و أ هم َ بكثير ٍ من مكاسب ِ حلفائه فى الحرب العالمية الثانية.

 

إ نتهت الحرب ُ العالمية الثانية لتبدأ الحرب الباردة والتى إ ستمرت إ لى إ علان تفكيك ال إ تحاد السوفيتى فى سنة 1991. خلال تلك السنوات (من 1945 الى 1991) كان العامل ُ الحاكم فى السياسة الدولية هو الصراع بين قطبى الحرب الباردة . ورغم أ ن الحرب الباردة يمكن أ ن ينظر إ ليها من عشرات الزوايا إ لا أ ن هذا المقال ينظر لها من زاوية واحدة من زواياها هى المسألة الكورية. وسبب تركيز هذا المقال على " ال حالة الكورية " أ نها فى إ عتقادى تلخص معظم حقائق ومعالم وتداعيات حقبة الحرب الباردة.

 

اللاعبون الرئيسيون ابان الحرب الباردة من المعسكر الذى كان يعرف بالمعسكر الشرقى معظمهم تبدلت – اليوم - بوصلتهم (أصطرلابهم) سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً : فال إ تحاد السوفيتى وكل دول أ وروبا الشرقية (ب إ ستثناء روسيا البيضاء) وكل الدول ال إ شتراكية فى آسيا (ب إ ستثناء كوريا الشمالية) وسائر دو ل العالم الثالث ال إ شتراكية (ب إ ستثناء كوبا) قد بدلت ركائز حياتها السياسية وال إ قتصادية . ولكن لا روسيا البيضاء ولا كوبا تشخص وتجسد وتمثل حقبة الحرب الباردة كما تفعل (ولا تزال تفعل) الكوريتان.

 

فشعب الكوريتين – فى ال أ ساس – واحد .. وكوريا (قبل ال إ نقسام المدفوع ب أ يديولوجيات حقبة الحرب الباردة) كانت دولة ً واحدة ً ... وشعب الكوريتين عرقي اً شعب ٌ واحد ٌ .. ويتكلم (للآن) ذات اللغة . العلامة الكبرى الفارقة بين الكوريتين تنبع من خيارين ومسارين ومصيرين تاريخيين ... ومن حق القاريء (ومن واجب حملة الأقلام) أن يضعوا أمام عيون القراء الآن وبعد أربعة وخمسين سنة من نهاية الحرب الكورية التي أدت إلى وجود كوريتين : كوريا جنوبية تسير وتعمل وتحيا وفق المنظومة الغربية (سياسياً وإقتصادياً) ... وكوريا شمالية دارت في فلك الكتلة الشرقية وبالتحديد صين ماوتسي تونج الشيوعية . والآن فإن أمام البشرية أن ترى وتتأمل وتفحص نتائج كل مسار من المسارين وكل خيار من الخيارين : خيار كوريا الجنوبية وخيار كوريا الشمالية ... وفي ظني أن هذين الخيارين هما أقوى ما يمثل حقبة الحرب الباردة كما أن نتائج المسارين – بنفس القدر – يمثلان ثمرة وحصيلة وعاقبة ونتيجة كل خيار من الخيارين التاريخيين الكبيرين اللذين مثلت كل كوريا من الكوريتين أحدهما .

 

عندما إنقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين هما كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية منذ أكثر قليلاً من نصف قرن كان عدد سكان كل دولة من الكوريتين مماثلاً لكوريـا الأخـرى ... ولكن اليوم وبسبب الظروف الحياتية والصحية المتردية في كوريا الشمالية وبسبب إرتفاع معدل وفيات الأطفال في كوريا الشمالية فإن تعداد كوريا الجنوبية يقترب من الخمسين مليون نسمة بينما يقترب عدد سكان كوريا الشمالية من نصف هذا الرقم . ويقتضي ذكر ذلك أن نورد أنه في مقابل كل ستة أطفال يموتون من بين كل ألف مولود في كوريا الجنوبية فإن الرقم في كوريا الشمالية يصل إلى أربعةِ أضعافِ ذلك أي أن أربعة وعشرين طفلاً من كل ألف مولود في كوريا الشمالية يموتون . ونظراً لإنشغالي في الوقت الحالي بوضع دراسة مطولة عن الكوريتين فقد يكون من المناسب – لخدمةِ رسالةِ هذا المقال – أن أضع أمام ناظري القاريء مجموعة من الأرقام المقارنة ذات دلالاتٍ بالغة الوضوح : بينما يبلغ عدد الخطوط التليفونية في كوريا الجنوبية أربعة وعشرين مليون خط فإن بكوريا الشمالية أقل قليلاً من مليون خط تليفوني ... بينما يبلغ إستهلاك الكهرباء السنوي في كوريا الجنوبية ثلاثمائة وعشرين مليار كيلو وات/ساعة فإن الرقم المقابل في كوريا الشمالية هو واحد وعشرين مليار كيلو وات/ساعة (أي أن الكهرباء المستعملة في كوريا الجنوبية تبلغ خمسة عشر ضعف الكهرباء المستعملة في كوريا الشمالية) ... بينما تستهلك كوريا الجنوبية ستمائة وخمسين ألف برميل بترول يومياً فإن كوريا الشمالية تستهلك خمسة وعشرين ألف برميل بترول يومياً فقط أي أن كوريا الجنوبية تستعمل كمية من البترول تمثل ألفين وخمسمائة في المائة (أكثر من خمسة وعشرين ضعفاً) من البترول المستعمل في كوريا الشمالية ... ومن الجدير بالذكر هنا أن هناك علاقة رياضية مؤكدة بين كمية البترول المستعملة في أي مجتمع ودرجة التنمية الإقتصادية في هذا المجتمع وأكبر دليل على ذلك الصين التي عندما يكونُ معدل نموها الإقتصادي هو تسعة في المائة فإن معدل زيادة الطلب على البترول بها تكونُ أيضاً تسعة بالمائة ... وبينما يبلغ حجم الناتج المحلي الكلي لكوريا الجنوبية ألف ومائتين (1200) مليار دولار فإن حجم الناتج المحلي في كوريا الشمالية لا يتجاوز الأربعين (40) مليار دولار أي أن حجم الناتج المحلي لكوريا الجنوبية يعادل ثلاثين ضعف الناتج المحلي لكوريا الشمالية ... أما متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية فقد بلغ أربعة وعشرين ألف دولار (سنوياً) بينما لم يتجاوز متوسط دخل الفرد في كوريا الشمالية ألف وثمانمائة دولار سنوياً ... وربما يكونُ من المفيد (وربما من المضحك) أن يعرف القاريء أنهُ في مقابل إرتفاع متوسط طول الذكور في كوريا الجنوبية إلى مائة وأربعة وسبعين سنتيمتراً فإن متوسط طول الذكور في كوريا الشمالية ظل عند مستوى مائة وثمانية وخمسيـن سنتيمتـر ... كما أنه في مقابل إقتراب متوسط العمر في كوريا الجنوبية من ثمانين سنة فإن متوسط العمر في كوريا الشمالية هو أقل بعشر سنوات .

 

وظني أن القاريء سيوافق على أن هذه الأرقام المقارنة ذات دلالة بالغة الوضوح وبغير حاجة لشرح : فقد إختار فريق الفقر والتخلف والمعاناة ... وإختار الفريق الآخر التقدم والرفاهية والصحة والإنتاج ... وبالنسبة لهواء الكرامة : فإن فريقاً إختار أن يتلقى المعونات والمساعدات وفريقاً إختار النماء والثراء وتقديم المساعدات !!