من قيم التقدم : "الإتقان".

تحولت فكرة الإتقان إلى علم قائم بذاته هو (علم إدارة الجودة ) والذي إنضم خلال العقود الأربعة الأخيرة لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت هناك معاهدُُ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة. ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء "علم إدارة الجودة" إلاَّ أنني لا أُريدُ في مقالٍ عام كهذا أن أدخل في تفصيلات وتفريعات علم إدارة الجودة والمواضيع الأساسية لهذا العلم وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول أن تواجد وتطبيقات علوم إدارة الجودة وتفشي ثقافة الإتقان ما هي إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي مغال في المجتمع. فالإتقان ملمح من ملامح المتميزين...والمتميزون هم الذين يفرزون مكونات ثقافة الإتقان ومفردات علوم إدارة الجودة ...وإذا لم يكن المجتمع يسمح بحراك إجتماعي يبرز المتميزين من أبناء وبنات المجتمع فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في المجتمع كلُ بدائلِ صور ومشاهد الإتقان.

 

وكما ذكرت في فصلٍ من فصول أحد كتبي تحت عنوان "التحول المصيري" فإن الحراك الإجتماعي الحر وتفاعلاته هما اللذان يجعلان أصحاب القدرات الأعلى من أبناء وبنات أي مجتمع يشغلون المواقع القيادية في كل مجالات الحياة في المجتمع وهو ما يفرز هرماً إجتماعياً صحيحاً وسليماً قد يطلق البعضُ عليه أنه الهرم الذي أنتجته الداروينية الإجتماعية بينما يغضب البعض (ولاسيما إذا كان هؤلاء ينتمون لعلماء الإجتماع الإشتراكيين) ويفضلون أن نقول (ولا مانع لدينا) أن هذا الهرم لا يبنى بالداروينية الإجتماعية وإنما يبنى بالحراك الإجتماعي الحر والفعال والذي يتيح الفرصة لكل متميّز ومتميّزة من أبناء المجتمع لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعلية في صنع الواقع والمستقبل: وهذه هي الخلفية الوحيدة التي تسمح بذيوع ثقافة الإتقان.

 

وعلى النقيض فإن المجتمعات التي لا تسمح تركيبتُها بالحراك الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعيه أمام غير المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القامات المتوسطة لكي يحتلوا مواقع عديدة على رؤوس الكثير من المؤسسات والتنظيمات والهيئات في المجتمع وهو ما يوجه ضربة قاضية لثقافة الإتقان ويشيع مناخاً ثقافياً مختلفاً تماماً أُسميه بثقافة القامات المتوسطة وفيه يختفي الإتقانُ وتشن الحروب بلا هوادة على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات المجتمع لأن أصحاب القامات المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ العام : فبدونه تتبدل قواعد اللعبة ويهبطون من مواقعهم العالية إلى مواقع أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدودية مواهبهم.

 

وموضوع الثقافة التي ينشرها "متوسطو القامة" بل والمناخ العام الذي يخلقونه هو موضوع يستحق الكثير من العناية من المفكرين والدارسين : لأن المثقفَ المستنير بوسعه أن يتصور كل ملامح الحياة والمجتمع والعلاقات التي تنشأ عن سيادةِ وشيوع "متوسطي القامة" وما يخلقونه من آلياتٍ لبقائهم وبقاء نوعياتهم في مواقعٍ مؤثرة وكذلك الدمار الذي يحدثونه في "القيم" و "المثل" و "الأخلاق العامة" وكذلك إنعكاسات شيوعهم على الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية، وما يجرون المجتمع إليه من "إنخفاض مروع" في "كل المستويات".

 

ومن النقاط التي يجدر توضيحها عند الحديث عن "الإتقان" و "إدارة الجودة" أن الإتقان ليس أمراً مرتبطاً بالتقدم التكنولوجي وإنما هو فكرة في رؤوس بعض الناس. ويذكر كاتب هذه السطور أنه عندما كان يحاضر ذات يوم بمعهد جوران ( Juran ) لإدارة الجودة بالولايات المتحدة الأمريكية أنه أسهب في شرح فكرته أن "الإتقان" فكرة في رؤوس المتميزين وليس ثمرة التكنولوجيا (فالتكنولوجيا نفسها ثمرة آحرى من ثمار تفكير المتميزين)...اذكر أنني عندما أسهبت في شرح هذه الفكرة وتطرقت للحديث عن "الإتقان" في مصر القديمة وكيف أن بناء هرم خوفو بالذات يُعد مثالاً بلا نظير لكون الإتقان "فكرة في الرؤوس" قبل أن يكون أي شئ آخر، ان عميد المعهد الذي كنت أُحاضرُ به علّق على هذه الجزئية بقوله أَنني لست بحاجة لمزيد من الأدلة على صحة هذا الزعم لأن شعار معهد جوران نفسه ليس إلاَّ عاملاً فرعونياً ينقش على جدار !! ويعني ذلك أن أكبر معهد في العالم لعلوم إدارة الجودة لم يربط بين الإتقان وبين التقدم التكنولوجي إذ أنه وجد ان العامل المصري القديم كان تشخيصاً لفكرة الإتقان ...وتحفل مصر القديمة بأدلة كثيرة على أن الإتقان "فكرة" قبل أن يكون أي شئ آخر : فإذا قمنا بمقارنة بسيطة بين درجات الإتقان في هرم الملك خوفو ودرجات الإتقان في الهرمين الذين بناهما والد الملك خوفو وهو الملك سنفرو لأدركنا كيف يمكن أن تحدث طفرة هائلة في مستويات ومعدلات الإتقان خلال سنوات قليلة وهو ما لا يمكن أن يكون له تفسير إلاَّ وجود كادر بشري يجسد بدرجة أعلى دقائق فكرة الإتقان.

 

ولا أكاد أتصور وجود خلاف حول ما شهدته حياتنا المعاصرة من تدهور مذهل في مستويات ودرجات الإتقان في مصر خلال نصف القرن الأخير وهو أمر لا يفسر إلاَّ بإنقلاب الهرم المجتمعي وتلاشي التميّز وما أدى إليه ذلك من شيوع ثقافة متوسطي القامة والذين لا يمكن أن يكون الإتقان وشيوع روحه هدفاً لهم إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا المقال نُشر في "الأهرام" يوم13 أكتوبر 2001.