مستقبلنا .. وقضية المرأة.


(أ)

 

المحور الرئيسي لكتاباتي منذ سنوات هو "التقدمُ". فعندما أُفرد فصولاً عديدةً في كتبي ومقالاتي لمسائلٍ مثل تطويرِ التعليمِ أو إستعمالِ تقنياتِ الإدارةِ الحديثةِ في شتى المجالاتِ لتحسين الظروف الحياتية، وعندما أُصدرُ كتباً تتعلق بعيوبِ تفكيرِنا المعاصرِ ... فإن كلَ ذلك (عندي) يصب في نهرٍ واحدٍ هو نهر تكوينِ عناصرِ التقدم أو إزالِة معوقاتِ التقدم. ومن أهمِ جوانبِ قضيةِ صنع التقدمِ (وضع المرأة في المجتمع) ونوعية الثقافة (العقلية أو الذهنية) التي ينظر بها المجتمعُ للمرأةِ ويتعامل معها. ويقيني أن هذا البعدَ هو أحدُ أهمِ أَبعادِ عمليةِ الحكمِ على مدى تقدمِ أي مجتمعٍ (أو تأخره). ورغم إيماني العميق بأن المرأةَ هي (على الأقل) مساويةٌ للرجلِ في كلِ شئٍ وفي كافِة مناحي الحياة، إِلاَّ أن حماسي لهذا الموضوع ينبعُ من إيماني بأن أَخطرَ ما في الذهنيةِ أو الثقافِة الذكوريِة التي تضع المرأة في مواضعٍ أدنى من الرجلِ هو تلك (الذهنية) ذاتها – فرغم أن الثقافة التي لا تساوي مساواة كاملة بين الرجلِ والمرأةِ هي ثقافةٌ ماضويةٌ متخلفةٌ عن العصر وثقافتِه وعلومِه، ورغم أنها "ثقافةٌ ظالمةٌ" وبالتالي "غير إنسانية" ؛ وهو ما يستحق أكثر بكثيرٍ من مجردِ الإدانةِ ، إلاَّ أن الدمارَ والضرر الكبيرين يأتيان من "الذهنيةِ" التي بسببها تسود تلك الثقافةُ الذكورية الرجعية – وبسبب شيوعِ وسيادةِ تلك الذهنية يستحيل (أكرر مرة أخرى: يستحيل) إنجاز التقدم الكلي المنشود للمجتمع.

 

ولا شك عندي أن العمودَ الفقري لذهنيةِ وضعِ المرأة في موضع أو مواضع أدنى من مواضع الرجل هو (نقص الثقة بالذات). فالرجلُ الذي لا يُعاني من مشكلِة نقصِ ثقةٍ بذاته وعقلِه وفكرِه وكيانه لا يحتاج لثقافةٍ عامةٍ تضع له المرأةَ في مواضعٍ أدنى منه. وقد علمتني خبرةُ التعاملِ مع آلافِ الشبابِ أن أصحابَ النصيبِ المتواضعِ من القدراتِ بوجهٍ عام أشدُ تمادياً في التمسكِ بالثقافِة الذكوريةِ التي تضع المرأةَ في مواضعٍ أدنى من الرجلِ – والأمرُ مفهوم : فمن أخفق على المستوى العام لا يبقى له (في الأغلبِ) إِلاَّ أن يتفوق (ويسود) بشكلٍ مصطنعٍ (وهزلي) في دائرته الخاصة الصغرى.

 

ومن العجيبِ أن الأجيالَ التي كانت في سنِ الشبابِ في الخمسينيات والستينيات (مثلي) تُعتَبر أكثرَ تقدماً في هذه المسألِة من الأجيالِ التاليةِ. وربما يُفسر ذلك ذيوع فهمٍ رجعيٍّ للعديدِ من المواضيعِ الدينيِة وكذلك خروج المرأة للعلمِ والعملِ مما أثبت (عملياً) أن تفوقَ الرجلِ على مستوي الذكاءِ والقدراتِ والكيانِ هو مجردُ "أسطورةٍ وهميةٍ" وهو ما حض الكثيرين من الشبابِ على أن يعوّضوا ذلك بإنتصارٍ وهميٍّ يستمدون مرجعيته من ذهنيةِ الثقافِة الذكوريِة التي تجعلهم "الأفضل" لمجرد كونهم ذكوراً (وما أسهل العثور على نصٍ يسوغ تلك الأفضلية المنافية للعلم والفكر والثقافة والإنسانية والتحضر).

 

وقد جعلتني المراقبةُ المدققةُ لسنواتٍ طويلةٍ أصلُ ليقينٍ واضحٍ – كما أسلفت – بوجودِ علاقةٍ عكسيةٍ بين "تناقص ثقِة الرجلِ في نفسهِ" و "استعدادِه لقبولِ أن المرأَةَ مساويةٌ للرجلِ في كل المجالاتِ" (وأكررُ أن المرأةَ مساويةٌ للرجلِ "على الأقل" – فقيمةُ المرأةِ في مجالاتٍ أُخرىٍ غير التي تتساوى فيها مع الرجل أعلى بكثيرٍ من قيمِة الرجل وأعني أنها مساويةٌ للرجلِ كإنسانٍ وأعلى منه قدراً كأمٍ هي مدرسة الإنسانية الأولى).

 

ومن السطحيةِ (بل ومن العبث) أن يستند بعضُ دعاةِ ذهنيةِ ثقافةِ التميّزِ الذكوري لنصوصٍ دينية. فمن جهةٍ فإن هناك نصوصاً أُخرى تؤكد الإنسانية الكاملة للمرأة وعدم أفضلية جنس على آخر، كما أن العبرةَ دائماً ليست بالنصوص وإنما بنوعيةِ العقولِ التي تتعامل مع النصوص. ويقيني أن المرجعَ الحقيقي لما يظنه البعضُ سنداً دينياً لتميّز الرجلِ على المرأةِ هو مرجعٌ يتعلق بالتاريخ الإنساني بوجه عام في مراحل خلوه من التمدن والإنسانية وكذلك بالتاريخ البدوي/القبلي بوجه خاص ولا يتعلق بالدينِ – ولا أدل على ذلك من أن لا أحد من أصحابِ ذهنيةِ التميّز الذكوري يهتم بإبراز خصائص الحياةِ الزوجية الأولى لنبي الإسلام – فقد كانت فوق كونها مثالاُ واضحاً على الإنسانيةِ الكاملةِ المتساويةِ لكل طرفٍ ، مثالاً على أشياء أُخرى لا يحب المتطرفُ بطبعه أن يراها مثل كون العصمة في يد الزوجة ومثل عدم زواج الزوج عليها وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على أحدٍ وإن مال أصحابُ ذهنية التفوق الذكوري (الوهمي) لعدم إظهارها أو ضرب الصفح عنها وكأنها لم تكن.

 

إن أولَ إنسانٍ في الكونِ حصل على جائزةِ نوبل في العلوم لأكثر من مرة كان "إمرأة" (مدام كوري) : ولو لم يوجد أمر آخر غير هذا (وهناك ألف أمرٍ آخر) لكان ذلك كافياً لإسكات أي إنسانٍ يردد تلك الآراء الرجعية عن تميّز "النوع الذكوري" عن "النوع الأنثوي" – ولعل معظم الذين يؤمنون بهذا التميّز (الوهمي) يوافقونني على أنهم سيكونون في موقفٍ بالغِ الحرجِ عندما يقارنون بتلك السيدة الفذة التي تفوقهم (عبقريةً وذكاءً وعلماً ونجاحاً) بآلاف السنوات الضوئية. وإذا قال قائلُ أَن مدام كوري محض إستثناء، قلنا له أن الرجال قيدوا النساء عدةَ قرونٍ ثم جاءوا يقولون أنهن لا يربحون في السباق. وقد دلتني قيادتي لمؤسسة عالمية عملاقة تضم الآلاف من الجنسين على عدم وجود أي دليل على أي تفوقٍ ذكوري في أي مجالٍ من مجالاتِ العلمِ والعملِ والإدارةِ والقيادةِ – بل أن ما رأيته من أشكالِ التفوقِ الأنثوي كان أبرز بكثيرٍ (بسبب التحدي والرغبة في إثباتِ الذات).

 

منذ عامين شهدنا تعيينَ أولِ امرأةٍ كقاضيةٍ بالمحكمةِ الدستوريةِ العليا لدينا، وهى خطوة حضارية عظيمة ؛ ولكنها تحتاج لأن تُستكمل، فتعيين عددٍ من النساءِ في كلِ وظائف القضاء (من بداية السلم الوظيفي) هو الضمانة الوحيدة لإنتهاء تلك الفضيحة الحضارية: فعن طريق ذلك سيكون لدينا بعد عشرين سنة جهازٌ قضائي نصفه من النساء – وهو الوضع الطبيعي، بل وهو الوضع الذي يجب أن يحتذى في كلِ وكافةِ المجالاتِ. فالمجتمعَ الذي يقصر المواقع الهامة على الرجال مجتمعٌ يعطل نصف طاقاته من الذكاءِ والتفكيرِ والعملِ والعلمِ والعطاءِ والإنتاجِ: فإذا لم يكن بعد ذلك مجتمعاً متقدماً فليس من حق أحد أن يتعجب: فكيف يعدو الإنسان بقدمٍ واحدةٍ.

 

والأمرُ يحتاج من الأجهزةِ المعنية بوضع المرأة في المجتمع (بالإضافة لما بذلوه ومازالوا يبذلونه من جهودٍ عظيمةٍ) لخطةٍ متكاملةٍ للقضاءِ على الثقافةِ الذكوريِةِ الرجعيِةِ في مجتمعنا : في الأسرةِ وفي التعليمِ وفي المؤسساتِ الدينيةِ وفي الثقافةِ والإعلامِ - وأن يكون محورُ الحملةِ أن المصدَر الوحيدِ لإيمان رجلٍ بتميّزه النوعي على النساء (لمجرد كونه رجلاً) هو مخزون هائل من نقصِ الثقِة بالنفسِ – فالأحرارُ يحبون التعامل مع الأحرارِ والعكس دائماً صحيح. وأضيف أنني أجزم بأنني ما سمعت رجلاً في واقعنا يروّج لأفضلية الرجال على النساء وعدم قدرة النساء على تبوأ كافة المواقع والمناصب إلاِّ .. وكان واضحاً لي خلوه الظاهر (هو نفسه) من التميّز .

 

إن نظرةَ أي مجتمعٍ غير متحضرةٍ للمرأة دائماً ما تتفنن في البحثِ عن مرجعياتٍ وأسانيدٍ لتأيد نظرتها ، رغم أنها (أي هذه النظرة غير المتحضرة) ليست ظاهرة دينية أو قانونية وإنما هي ظاهرة ثقافية بحت . ومعنى ذلك أنه في ظل إرتقاء المناخ التعليمي والثقافي بشكل عصري لأي مجتمع فإن نظرة أفراده للمرأة ترتقى على الفور بحيث تتجاوز السؤال الرجعي بطبيعته: هل المرأة مساوية للرجل أم لا ؟ ويكفي للتدليل على أن القضية ثقافيةٌ في جوهرِها ومادتها ومظهرِها أمثلة قليلة ولكنها واضحة الدلالة: فرغم وجود نص قرآني واضح ينهي الرجال عن إبقاء زوجاتهم لمجرد الإضرار بهن وهن راغبات في عدم بقاء الزوجية (ولاتمسكوهن لتعضلوهن) فقد ظل النظامُ القانوني لدينا لسنواتٍ طويلةٍ يسمح بنظامِ بيتِ الطاعةِ والذي هو تجسيد لإمساكِ رجلٍ لامرأةٍ في بيته ليعضلها (أي ليسبب لها الأذى المادي أو المعنوي) – نحن هنا أمام حالةٍ صارخةٍ تؤكد وتترجم ثقافة بالغة التخلف والرجعية وتعارض أكثر من سند كان من الممكن الإستناد إليه لو أن الذهنية التي تتعامل مع الأمر كانت ذهنية مستنيرة – وفي يقيني أن نظامَ بيتِ الطاعِة كان عاراً قانونياً وإجتماعياً وثقافياً يجلب من الخزي ما لا مثيل له على سمعة عقولنا وثقافتنا. وفي سنواتٍ لاحقةٍ عندما تحمست الدولةُ لقانون الخلع (وهو حق إنساني لا يتصور أن يعارضه منصف) أصيب آلافُ الرجال في مجتمعِنا بغصةٍ شديدةٍ : فكيف يجردهم القانونُ من أداةٍ من أدواتِ البطش الغاشم كانت بيدهم، ولو أنهم كانت لديهم جرعة معقولة من الثقةِ بالنفس لما أزعجهم على الإطلاق هذا التطوير التشريعي الذي جاء بمثابةِ خطوة بالغِة الأهمية للأمام. بل أن الإنسان ليتعجب : كيف تستقيم أفكار مثل الرجولة والشهامة والمروءة والكرامة مع موقف رجل يرغب في أن يساعده القانون على أن تبقى في الحياة معه امرأة لا تريده – إن الصفحاتِ العديدة المليئة بالتراث العربي المتعلق بالرجولة والشهامة والفروسية والكبرياء والمروءة تداس بالأقدام عندما يُبقي رجلٌ واحد امرأة في حياة زوجية لا ترغب فيها. ولا أدل أيضاً على كون المسألة حالة عفونة ثقافية من أن آلاف الشباب بل وآلاف الفتيات يرفضون أن تكون العصمة في يد الزوجة في الوقتِ الذي كانت فيه العصمة في يد الزوجة الأولى للنبي ولا يستطيع أحدٌ أن يقول أن ذلك كانت له أية دلالات سلبية في حق الزوج الكريم.

 

ولا يفوتني أن أذكر أن متابعتي الطويلة لتراجيديا ثقافة التميّز الذكوري (الرجعية بل والجاهلية) في بعض المجتمعات هي مرضٌ لم يصب الرجالَ فقط (وإن كانوا هم مصدره والمستفيدين منه في دوائرهم الخاصة) إذ أن المرضَ قد أصاب الكثيرَ من النساء والفتيات لدينا، فأضحين أمهاتٍ ينشئن أبنائهن وبناتهن على تلك الذهنية التي لا أجد كلمات مهذبة لوصفها سوى أنها ذهنية رجعية وغير مناسبة للتقدمِ والعصرِ والعلمِ والمدنيةِ. إن تحرير المرأة من ربقة الثقافة الذكورية الرجعية (والتي هي شكل من أشكال الرق وهزيمة الرجولة والمروءة) تبقى أمراً مستحيلاً ما لم تصبح المرأة نفسها في طليعة الساعين لتغيير هذه الثقافة الدونية بثقافة عصرية تكون فيها المرأة على قدم المساواة تماماً وكليةً في سائر المجالات وشتى المواضيع بل ويسود إقتناعٌ (هو جزء لا يتجزأ من تكويني العقلي) بأن المرأة أكثر بكثير من نصف المجتمع : فهي كما ذكرت نصف المجتمع عددياً ، وأكثر من ذلك بكثير كأم للرجال والنساء معاً – وما أعمق حزني أن تكون تلك قضية مثارة في زمنٍ ينشغل المتقدمون بالعلم والتقدم والحريات العامة وحقوق الإنسان ، بينما نسأل نحن سؤال يحمل أطناناً من الخزي : (هل المرأة مساوية للرجل؟) ..

 

(ب)

يقول الشاعرُ الفرنسي "أراجون" (أن الإنسانية لو واصلت الإعتذار لمدة خمسين ألف سنة للنساءِ على ما إقترفَه الرجالُ في حقهن – لما كان ذلك كافياً) … وهو قولٌ صحيح إلى أبعدِ حدٍ . وأضيفُ إليه أنني بعد رحلةٍ عارمةٍ مع المعرفة لا أجد شيئاً أسوأ في سجل البشرية من أمرين: الحروب (وما يلحق بموضوعِها من إنفاقٍ أحمقٍ على التسلح) ثم موقف أعـدادٍ كبيرةٍ من الرجالِ من المرأةِ – وهو موقف مشين ومهين للبشريةِ جمعاءِ . لقد ذكرت في مقال لي نشر بهذه الصفحة عن "المرأة والتقدم" أن من المستحيلاتِ إحداثِ التقدمِ في أي مجتمعٍ لا يساوي بين المرأة والرجل – وأن المشكلة تكمن في أن "الذهنية" التي لا تستطيع أن تستوعب ذلك لن تستطيع أن تستوعب متطلبات التقدم . وأن الرجلَ الذي يتحدث عن تميّز الرجال عن النساء هو صاحب "إرث مهول" من ضعفِ الثقةِ بالذات . وأن الذين يعتقدون أنهم يؤسسون آراءهم الرافضة للمساواة المطلقة بين المرأة والرجل على أساسِ ما يسمونه "رأي الدين" هم في الحقيقة أناس جعلوا ثقافة العصور الوسطى وقيم المجتمع القبلية ومفاهيم الجماعات الرحل (البدو) مرجعية سموها (خطأً) "برأي الدين" … والحقيقةُ أنها آراؤهم هم بما يمثلونه من ضعفٍ واضحٍ في الثقةِ بالذاتِ وسقوطٍ كلي في ثقافةٍ هي ضفيرة من "البداوةِ" و"القبليةِ" و"القرون الأوسطية" . لقد لامتني كاتبةٌ أقدرها كثيراً لأنني أتحدثٌ عن المرأةِ كركنٍ لازمٍ للتقدم ولا أتحدث عن مساواتها بالرجل من منطلق أن ذلك "حقها الإنساني" – والحقيقة أنني أؤمن بالزاويتين: فالتقدمُ لا يحدث في مجتمعٍ لا تشيع فيه ذهنيةُ المساواة بين المرأة والرجل … كذلك فإن هذه المساواة المطلقة إنما هي "حق إنساني أصيل للنساء" لا يجادل فيه من تكوَّن عقلياً وثقافياً بشكل علمي وعصري ومتمدن .

لقد كان "قانون الخلع" إنجازاً حضارياً عظيماً – إلا أن إعترافنا بهذا الإنجاز وتقديرنا العميق له لا يتناقض مع حتمية الدعوة لإيجاد ضماناتٍ قانونيةٍ دستوريةٍ تجعل "من المستحيل" على دعاةِ الظلام والرجعية أن يتمكنوا من إلغاء هذا القانون … بل وأطالب بخطوة أخرى للأمام: وهي النص في كل وثائق الزواج على حق المرأة في طلب التطليق لمجردِ التضرر (مادياً كان أم معنوياً) … كما أُطالب بنشرِ ثقافةٍ تدعو للوصول بوثيقةِ عقدِ الزواج لما قام عليه زواج النبي من خديجة بنت خويلد – والتي كانت بيدها أن تلغي عقد الزواج وقتما تشاء كما كان الإتفاقُ على عدم التزوج بأخرى عليها منصوصاً عليه .

 

كذلك ، كان تعيين سيدة كقاضيةٍ بالمحكمةِ الدستوريةِ العليا (كما ذكرت في موضوع سابق من هذا المقال) إنجازاً حضارياً عظيماً آخر – ولكن مرة أخرى فإن إعترافنا بعظيم قيمة هذا الإنجاز وتقديرنا له لا يتناقض مع دعوتنا لإستكمالِ هذه الخطوة الحضارية بإلتزام وزارة العدل بتعيين نسبة لا تقل عن 25% من وكيلي النائب العام من النساء – فهذه هي الوسيلة المثلى لوجود المرأة في كافةِ المواقعِ القضائيةِ وليس كنتيجةٍ لقرارٍ فوقي بتعيين قاضية بالمحكمة الدستورية العليا .

 

كذلك من الواجب واللازم اليوم إيجاد برنامج محدد لتعيين عددٍ كبيرٍ من النساءِ في مواقع المحافظين ونواب المحافظين ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء المدن وسائر المناصب العامة (من أعلى السلم الإداري ومن بدايته أيضاً) . فبدون ذلك ، ستكون هناك فرصاً لذهنية الرجعية والثقافة الذكورية القرون أوسطية لمحو الخطوات والإنجازات الحضارية التي تمت . إن "الأمرَ الواقع" هو الذي سيحول دون حدوث نكسة حضارية قد تتمثل في إلغاء قانون الخلع والإعتراض على وجود النساء في مناصب ومواقع معينة .

 

إن الذين يتحدثون تحت مظلة ما يسمونه "رأي الدين" هم الذين ساندوا الملك فؤاد في عشرينيات القرن الماضي في سعيه لمنصب الخلافة … ثم أرادوا أن يكون تتويج الملك فاروق في سنة 1937 في الأزهر وليس تحت قبة البرلمان … وهم الذين قالوا في الستينات أن الإسلام هو الإشتراكية … ثم قالوا نقيض ذلك بعد سنوات قليلة … وهم الذين قالوا في مرحلةٍ أن الحربَ مع إسرائيل واجب ديني – ثم قالوا في السبعينات أن الصلح معها هو "رأي الدين" (إن جنحوا للسلم فاجنح لها) … وهم الذين قالوا لعقود عديدة أن إذلال المرأة والإتيان بها قسراً لبيت الطاعة هو "حكم الدين" .. ثم عدلوا عن ذلك . لهؤلاء نقول: أننا نعلم عن الفقه الإسلامي مثل ما تعلمون .. وأول ما نعلمه أن تعريف الفقه الإسلامي هو (إستنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية) … والإستنباط "عمل بشري" وهذا هو ما عبَّر عنه الإمام أبو حنيفة عندما وصف "دنيا علم أصول الفقه" بقولته الرائعة: (علمنا هو رأي – فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه) . وأبو حنيفة (لمن لا يعلم) لم يقبل من الأحاديث إلا عشرات في مقابل قبول أحمد بن حنبل لعشرات الآلاف . كما أن الرجل المعروف بالإمام الأعظم (أبي حنيفة) هو الذي يقوم مذهبه على إمكانية رفض تأسيس الأحكام على الأحاديث التي تعتبر من "أخبار الآحاد" . والخلاصة، أن مطالعتنا لآلاف المراجع في علم أصول الفقه جعلتنا نرى بوضوح أننا أمام عمل بشري أنجزه عمالقة أفذاذ … ثم جاء الشّراحُ (وهم أصحاب محصول معرفي ومكن عقلية أقل) فأضفوا قداسة (لا محل لها) على عملٍ بشريٍّ .

 

إن هذا الوقت هو الأنسب لكسر حلقة الجمود في موقفنا العام من المرأة – فلنتقدم ونحدث كل الخطوات التي تجعل من المستحيل أن يتمكن أحد في المستقبل من إحداث نكسة حضارية في هذا المجال .

 

ولنكن على يقين أن هناك علاقة مؤكدة بين التكوين الثقافي للإنسان وما يعتقده في هذا الموضوع بالغ الأهمية – وهو ما سيقودنا لإكتشاف حقيقة جوهر ومنبت الرأي الذي يتجه للمحافظة على وضع المرأة على ما كان عليه في معظم تاريخنا: وأعني أن إستعمال "الدين" ما هو إلاِّ "غطاء سياسي" لوجهات نظر تنبع من الثقافة التي كونتها مصادر أربعة هي: ثقافة البداوة وثقافة القرون الوسطى والثقافة الذكورية المتأصلة في ثقافة القبيلة الصحراوية وإنعدام (أو ضعف الصلة) بالمعرفة الإنسانية الواسعة. فما الذي نتوقعه من "رجل" نهل من تلك المنابع وإستكملها بعزلته الثقافية عن إبداعات الإنسانية العظيمة والتي يندر توفرها لمن لا تكون له أدوات طيعة من لغات دول عصر النهضة؟ .. كما أن إنعدام الموضوعية في ذلك الأمر "مطلق": فنحن هنا أمام "رجعية" تزاوجت مع "البدائية" وتلونت "بالقبيلة" – ثم كستها بعد ذلك رقيقة من العزلة عن "منابع الإبداع الإنساني العالمية" ثم اكتملت المأساة بكون صاحب الشأن يدافع عن ذاته (والتي هي ضعيفة لدرجة مذهلة).

 

(هذا المقال مقدمة كتاب جديد لم يُنشر بعد عن "المرأة والتقدم").