حاجتنا لثقافة حوار عصرية .


إشتركت مجموعةٌ من العواملِ لجعلِ "ثقافِة الحوارِ" في واقعِنا هزيلة وبحاجةٍ ماسةٍ للتغير. وقد ساهمت في إفتقارِنا لثقافِة حوارٍ عصريٍة وثريٍة ومتأصلٍة عواملٌ مثل ضآلة الهامش الديمقراطي الذي عشناه خلال عقودٍ عديدةٍ من بدايةِ عصرِ نهضةِ مصرَ المعاصرة على يدِ مُحمدٍ على منذ قرنين من الزمان إلى جانبِ تأثرنا (بشكلٍ نسبي) ببعدٍ ثقافي من مكوناتنا يجعل للسلطة الأبوية (بالمعنى الواسع) مكانةً كبيرةً تعمل على إنكماش المساحِة المتروكِة للحوارِ الحرِ وبمحاذاةِ ذلك كانت هناك أسبابٌ أخرى مثل إنتشار ثقافةٍ دينيةٍ لا تمثل أكثر الجوانبِ حريةً بين تياراتِ الفكرِ الديني بل ويوجد إجماعٌ على أن مدارسَ الفكرِ القائمة على "النقل" في هذه الناحية كانت لها الغلبة على مدارسِ الفكرِ القائمِة على "العقل" ...كذلك فإن برامج ومناهج التعليم إتسما الى حدٍ بعيد بإفتقارٍ شديدٍ لترويج الحرية وتشجيع الإبداع وثقافة الديالوج إذ عوضاً عن ذلك ذاعت نظمُ تعليمٍ ترسخ التلقين وإختبارات الذاكرة وتكون العلاقةُ فيها بين المدرسِ والتلميذِ أو بين الأستاذِ والطالبِ هي علاقة منولوج و ليس علاقة ديالوج. ويمكن أيضاً أن يضيف المتأملُ في هذه المسألة سبباً آخرَ وهو تضاؤل ثقافة التعددية وذيوع نموذج "الأوحد" في شتى جوانب الحياة. وقد تضافرت هذه الأسباب وغيرها في تقلصِ الآفاقِ الرحبةِ للحوارِ وأنتجت في نفسِ الوقتِ أَنماطاً من الجدل ينبغي علينا أن نُبرز أنها تنتمي للمقاتلِة والمبارزِة والمحاربِة والتشهيرِ والسبِ والتجريحِ أكثر من إنتماءها لفكرةِ ومفهومِ الحوار. ونظراً لإن لدينا غير قليل من الشخصانية (نقيض الموضوعية) فقد أصبح ذلك بمثابة إلقاءِ الزيتِ على النار: فسرعان ما ينقلب الحوارُ إلى مبارزةٍ وتراشقٍ بالتهمِ وفتح ملفات لا علاقة لها بصلبِ الحوارِ.

ومن غير الصواب أن يعتقد المرءُ أن هذه الظاهرة تكونت خلال العقود الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة الأخيرة، فكل ما حدث أنها تفاقمت لأسبابٍ عديدةٍ تتعلق كلُها بالإتساع الكمي للطبقة الوسطى الذي واكبه إنخفاضٌ نوعي لكل مستوياتها. فالذين تغريهم المطالعةُ على قراءة الخلافات الفكرية والأدبية في العقود الأولى من هذا القرن يعرفون أنه إلى جانب عددٍ غيرِ كبيرٍ من الحواراتِ العقلانيةِ المتسمِة بهدوءِ النبرةِ والتعويلِ على مواجهِة الحجِة بالحجِة (على سبيل المثال الحوار المعروف بين طه حسين والعقاد عن الثقافتين اللاتينية والسكسونية) فقد ذاعت نماذج من الحوار المشابه للبراكين حيث يتحول الجدلُ إلي مبارزةٍ بحجارةٍ من الكلامِ والتهمِ وسيوفِ التجريحِ والتشهيرِ حتى لو كنا بصدد قضايا فكر أكاديمية بحتة.

ورغم ميلي للإيمان دوماً بأن كلَ الظواهرِ السلبية قابلة للمعالجة إلاَّ أنني أظنُ أن الأجيالَ التي تجاوزت سن الطفولِة في واقعِنا يصعب تغيير ثقافتها الحواريةِ إذ أن الأَمر هنا عميقُ الجذور وربما يمكن الحد من عيوب هذه الظاهرة لدى تلك الأجيال بتبني جهة ما لمشروعٍ ثقافي يقلل من نموذج الحوارِ المريض لدينا لاسيما في وسائل الإعلام وأعني مشروعاً لضرب القدوةِ من قِبل الصفوة الفكرية قد يكون ذا تأثير نسبي في إتجاه الحدِ من نماذج التحاور القبلية والشائعة لدينا. أما الأملُ الكبير فمكانه مؤسسات وبرامج التعليم فهي القادرة على تقديم أجيالٍ جديدةٍ غُرست في عقولِها وضمائِرها فكرة أن التعددية ليست فقط من طبيعة الحياة وإنما هي من مزايا الحياة ومن مصادر ثراءها وأن التعددية تفرض على الجميع إحترام الإختلاف وأن التعددية وإحترام الإختلاف ينجبا قدراً غير قليل من الموضوعية (وإن كانت الموضوعيةُ المطلقُ مستحيلةً) وأن كل ذلك يثمر عقولاً تؤمن بالحوار العقلاني وثقافة الديالوج وما يعينيه ذلك من إحتمال دائم قائم أن يكون كلٌ منا غير محق بدرجةٍ أو بأخرى وفي نفس الوقت أن يكون الآخرُ محقاً بدرجة أو بأخرى.

ولا يمكن فصل "التعليم" و "ثقافة الحوار" عن جرعةِ الإيمانِ بالإنسانيِة التي تغرسها برامج التعليم وأعني أن من أهم مهام أي برامج تعليمية تهدف لخلق كادر بشري عصري ناجح هو غرس جرعة كبيرة في عقول وضمائر التلاميذ والطلاب تؤَصل أننا جزءٌ من الإنسانيةِ بقدر كوننا مصريين أو عرب أو مسلمين أو مسيحيين علماً بإن ذلك (الإنتماء للإنسانية ككل) ليس خصماً من الإنتماءات الأخرى.

ولدي أسباب وأدلة وقرائن عديدة على أن تأصيل الإنتماء للإنسانية ككلٍ هو أمرٌ غائبٌ أو شبه غائب عن معظم برامجنا التعليمية التي تنضح بالمحليةِ و الإقليميِة ورغم ذلك فإنها غير ناجحة في تأصيل إهتمامات التلاميذ والطلاب بالمعرفة العميقة بأهم مرحلة من مراحل تاريخنا وهي مرحلة مصر القديمة فمعظم التلاميذ والطلاب (وربما معظم المدرسين والأساتذة) لا يستطيعون أن يجيبوا عن سؤال بالغ البساطة مثل: لأية أسرة ينتمي الملك المصري الشهير أمنحتب الثالث؟ وهو سؤال يجيب عنه معظم أطفال المدارس الإعدادية والابتدائية في دولة مثل فرنسا.

ومن أهم محاور موضوع تأصيل ثقافِة حوارٍ عصريةٍ وإيجابيةٍ وبناءةٍ محورُ القدوةِ: فمن المستحيل توفر فرصة تأصيل ثقافةِ حوارٍ متحضرٍ في مُناخٍ عامٍ كان فيه سياسيٌّ بارزٌ يتحدث عن رئيسِ دولةٍ مجاورة بإسم أمه !! فحدث واحد كهذا كفيل بزلزلة الأرض تحت أقدام كل الذين يحاولون تأصيل ثقافةِ الحوارِ العصرية والمتحضرة في مجتمعاتهم... ولا يُقصد بالقدوة رأس الهرم المجتمعي فقط وإنما عدد كبير من مجموعة الطبقات القيادية التالية لمواقع القمة ويشمل قادة الفكر والرأي ورموز المجتمع إذ أن ممارسة بعض هؤلاء لحوارِ التقاتلِ والمبارزةِ والتشهيرِ والتجريحِ كفيلٌ بإحداث شروخٍ تصعب معالجتُها في بنية الرأي العام.

ولا شك أن شيوع قيم (قبول الآخر) و (إحترام الإختلاف) و(التسامح الديني) هي من أهم العوامل المساعدة على تأصيل مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ يسمح بتدعيم وإستشراء ثقافة الحوار (الديالوج) العصرية والمتحضرة ...والعكس صحيح: فالثقافةُ الدينية التي تسمح بالتكفير والمناخ الثقافي العام الذي يرى الإختلاف وكأنه يعني (التميّز) في جانب و (الدونية) في جانبٍ آخرٍ هي من عناصر إنهيار فرص ثقافة الحوار البناء. بل ان نظرةَ عددٍ كبيرٍ من المفكرين للحوار على أنه إستمرار (بدون أدوات العنف) للإقتتال هو من معالم ثقافة الحوار القبلي وفي نفس الوقت من موانع ذيوع ثقافة الحوار العصرية المتحضرة :فالتحاور على أعلى المستويات ليس إستمراراً للعنف وإنما بديل للعنف – والفارق الفلسفي بين المفهومين بالغ الوضوح.

ومن البديهي أن يكون حجر الأساس في ثقافة الحوار العصرية والبناءة والمتحضرة التي ننشدها أننا طالما آمنا جميعاً بان أي فكر لدينا أو لدى الآخرين هو "محاولة بشرية" يعتريها نقص كبير أو صغير ،وأن كل رأي يحتمل أن يكون صحيحاً بدرجة ما...أو خاطئاً بدرجة ما، فان النتيجة الحتمية لذلك أن نزرع في عقول وضمائر أبناء وبنات هذا الوطن أن الصواب المطلق غير متوفر لأحد… وأن احتمال الخطأ وارد...وان الخطأ لا يعني "العار" أو "الفضيحة" وإنما يعني فقط "الخطأ". وان (رأي كل منا) هو (جسم خارجي) عنَّا، تكون من عناصر مختلفة مثل الخلفية والتعليم والثقافة والخبرة وما اتيح من معارف وبالتالي، فان أي إلصاق لآرائنا بكبريائنا أو كرامتنا هو أمر بالغ الخطأ. وينبغي أن يؤسس على كل ذلك أن من "الجاهلية الفكرية" أن يتضمن قاموس الحوار ألفاظاً مثل الإتهام بالخيانة وخلافه من قاموس الحوار القبلي القائم على تجريح المتحاور ومعه أكثر من قيامه على تفنيد الأفكار محل التحاور.
(أخبار اليوم 23/2/2002)