مشـروع ثقافي لمصر المستقبل .


أؤمنُ بأنَ صُنعَ مستقبلٍ أفضلٍ لمصرَ هو عمليةٌ لا تتم إلا بثلاثِ أدواتٍ . أداةٌ أولي اقتصادية تعملُ علي ايجادِ حياةٍ اقتصاديةٍ ناجحةٍ تحققُ مردوداتٍ عاليةٍ تسمحُ بالوِفرةِ الانتاجيةِ اللازمةِ لأي برنامجٍ من برامجِ الإصلاحِ . ثم أداةٌ ثانيةٌ سياسيةٌ تتمثلُ في توسيعِ الهامشِ الديموقراطي وبالتالي كفالةُ مشاركةٍ أوسع لإعدادٍ أكبر من أبناءِ وبناتِ هذا الوطن في صياغةِ الخياراتِ السياسيةِ له . ثم تــأتي أداةٌ ثالـثةٌ لا تقل أهمية عن الأداتين الأخريين وهي "الأداة الثقافية" والتي يشترك في صياغتِها وتوظيفِها كلُ ما يندرج تحت مسميات المؤسساتِ التعليميةِ والإعلاميةِ والثقافيةِ . وإذا كان لزاماً علينا أن ننتقلَ من (العمومياتِ) إلي (المحدداتِ) ؛ فإنني أصيغُ في هذا المقالِ معالمَ عدة ركائز أعتقدُ أنها لازمةٌ وحتميةٌ لإيجادِ الجوِ الثقافي العام الذي بتوفُرِهِ تتضافرُ جهودُ الأدواتِ الثلاثةِ (الاقتصادية والسياسية والثقافية ) لصنعِ واقعٍ ومستقبلٍ أفضل لهذا الوطن . ورغم أنَ هذهِ الركائزُ (كلها أحياناً وبعضها أحياناً أخري) تجعلُ "الفكرَ" الذي تقدمه هذه الركائز في خلافٍ مع معظمِ التياراتِ الفكريةِ السائدةِ في واقعنا ومع سَدَنَةِ هذهِ التياراتِ (من الماركسيين والناصريين والإسلاميين والقوميين وأيضاً أنصار مذهب "بقاء الحال علي ما هو عليه") إلاّ أن ذلك لا يمنعني من صياغتِها وتقديمِها ليس فقط لإيماني العميق بصوابِها وحتميتِها ، وإنما أيضاً ليقيني أنها تهدفُ للترويجِ لأهمِ معالمِ فكرِ المستقبلِ وهو (التخلي عن الأيدولوجيا) فالإنسانيةُ المتقدمةُ (في اعتقادي) تركت القرنَ العشرين ومعهُ التوجهات الأيدولــوجية ودخلت القرن الحــادي والعشرين بالإيمـانِ بالعلمِ والحداثةِ والمنافسةِ والديموقراطـيةِ وحقــوقِ الإنسانِ دونَ أن تـكونَ هذهِ القيـم منطلقة من "إطارٍ أيدولــوجي" . بــل إن أهــم أدواتِ التفــوقِ في العالمِ المعاصرِ وهي (الإدارةُ الحديثة الفعّالة) هي أكبرُ دليـــلٍ علي (أدواتٍ غيرِ أيــدولوجية) لصنعِ الواقعِ والمستقبلِ (أُسوةً بالعلمِ والتكنـولوجيا واللذين لا يستندانِ أيضاً لأي خلفيةٍ أيدولوجية) . وفيما يلي عرضٌ موجزٌ للركائزِ الأساسيةِ لجوٍ ثقافيٍّ لازمٍ للإصلاحِ الاقتصادي والتقدمِ الديموقراطي حتي تنتج الأدواتُ الثلاثُ الثمراتِ المرجوةَ وهي الإزدهار والإستقراروالسلام الإجتماعي والتآخي الإنساني وصيرورَتنا جزءاً إيجابياً فعالاً من أجزاءِ العالمِ المعاصرِ .

الركيزة الأولي : الإيمان بالديموقراطية والحرية :
حجرُ الأساسِ في أيّ فكرٍ (وجوٍ ثقافيٍّ عامٍ) يريد أن يكون متوائماً مع العصر وفي سلامٍ مع العالم الجديد هو الإيمان بأنَ الديمـوقراطيةَ هي أعظَمُ منتجاتِ ومنجزات مسيرةِ التمَدُنِ الإنساني . ويقيني أنَ المنتجاتِ الكُبرى لمسيرةِ التَمَدُنِ الإنساني قد تحدُثً في ظِلِ حضارةٍ مُعينةٍ ، إلا أنـها تكونُ ثمرةَ تطورٍ طويلٍ عَبرَ مَسيراتِ الحضارةِ الإنسانيةِ المختلفة . كذلكَ ، فان الإيمان بجدوي الديموقراطية يحمي من السقوط في خطيئة الكفر بـها بسبب كَوْن التجارُبِ الديموقراطيةِ المتقدمةِ تَشوبُها نواقصٌ ويعتريها خللٌ في بعضِ جوانبها ؟ بل - علي النقيضِ- يجب أن يزدادَ إيماننُا بالديموقراطيةِ لمعرفتنا المُؤكدة بأنَ كلَ نظامٍ جيدٍ أنتجَهُ البشر قد يكونُ مُتجهاً صَوْبَ الكمـالِ و لكنهُ لا يبلُغُ حدَ الكمالِ . ولا ينقُصُ ذلك قَطْ من الإيمان بـأنَ البشريةَ لم تُنتِجُ نظاماً أو فكرةً أسمى وأرقى من الديموقراطيةِ (بنواقِصِها) . ويسيرُ في محاذاةِ الإيمانِ بالديموقراطيةِ الإيمانُ بالحُرياتِ العامةِ وتقديسِها والإيمانُ الموازى بحقوقِ الإنسانِ (حتى لو كانت حركةُ حقوقِ الإنسانِ لا تزالُ في بواكيرِ عُمرِها ويَشوبُها الكثيرُ من النقصِ والخَللِ وأحياناً الكَيلُ بأكثرِ من مكيالٍ) .

الركيزة الثانية : الإيمانُ بالعلمِ والحَداثَةِ :
كذلكَ ، ينبغي أن يكونَ الجــو الثقافي العام عامراً بإيمانٍ قــويٍّ بأنَ مخاصَمَةَ العِلمِ (ومن عِندَهُم العلم) ومُحارَبَةَ الحَداثَةَِ (ومن يقودونَ رَكبَ الحداثةِ) هُما خَطــيئةٌ لا تُغـتَفَرُ ، فالعـلمُ والحداثةُ يمثلانِ (محركَ) و(وقودَ) التقدمِ و تحسينِ نوعيةِ الحياةِ الإنسانيةِ ، فكيفَ لا نكونُ محكومينَ بالإيمانِ العميقِ بالعلمِ والحداثةِ ؟ وبديهيٌ أن يكونَ هذا الإيمانُ سبباً لرفضِ من يروجونَ لأفكارٍ ماضويةٍ تجعلُ مجتمَعنا في خصومةٍ مع "العلمِ" و تنافرٍ مع "الحــداثةِ" . كذلك ، فإنَ رحلتي مع دراســةِ الحضـارةِ الإنسانيةِ بوجهٍ عامٍ والحضارةِ الغربيةِ الحديثةِ بوجــهٍ خاصٍ تجعــلُ دعوةَ البـعضِ للفصلِ بين المنتجاتِ الماديةِ للحضارةِ الغربيةِ (العلم والتكنولوجيا وِثمارِهما) وبين الشِقِ الثقافي لهذهِ الحضارةِ تتقلصُ ويتناقَصُ أتباعها . إذ أن المُناخ الثقافي العام الذي وُجد في الحضارةِ الغربيةِ هو الذي أنتجَ الشِقَ المادي لهذهِ الحضارةِ . ولا يعني ذلكَ المُحاكاةَ العمياءُ للحضارةِ الغربيةِ بقدرِ ما يعني الإيمانُ بأن مجموعةَ القيمِ الإيجابية في هذه الحضارةِ هي من جهةٍ أساسُ تقدمِها في كل الجوانبِ ومن جهةٍ ثانية فإنها لا تنفي الخصوصيات الثقـافية للآخرين والدليلُ علي صحة هذا ما حدث في جنوبِ شرقِ آسيا واليابان حينَ تبنت هذه الشعوب الكثيرَ من القِيمِ الأساسيةِ للحضارةِ الغربيةِ فحققت أشكالاً عديدةً من التقدمِ دونَ أن تخسرَ خصوصياتها الثقافية .

الركيزة الثالثة : الإيمانُ بأنَ هناكَ عالمية للثقافة لا تنقضُ الخصوصيات الثقافية :
كذلكَ يصعبُ تصورَ وجـودِ جــوٍ ثقافيٍ عام ملائمٍ للعصرِ بدونِ إيمانٌ عميقٌ بأنَ (الفكرَ) و(الإبداعَ) و(العبقريةَ) هي مجالاتٌ توجد فيها مناطقٌ واسعةٌ "لا جنسيةَ لها" ، بمعنى أنها "إنسانية بحتة" . وقد أسهبتُ في الكتابةِ عن هذه المسألة ، وكان آخرُ ما نُشِرَ لي في هذا كان بعنوان (هل للفكر والإبداع جنسية؟) . وجوهرُ هذهِ النقطةِ أنَ جُـلَ الإبداعــاتِ الفكريةِ والأدبيةِ والفنية تعلو فوقَ أرضِ الخصوصيات وتحلق في سماء الإنسانية والعالمية . ولا يجعلني ذلك أنفى على الإطلاق "الخصوصيات الثقافية" ، بل أنني أدعو دوماً لحالاتٍ من "الوحدة" في ظل "الاختلاف" كما أدعو لحياةٍ ثقافيةٍ تعمل علي إثراءِ المعرفةِ بروائـعِ إبداعاتِ العــقولِ الجبارةِ بصرفِ النظرِ كليةً عن جنسيةِ أصحابِها . كذلك ، فإنَ علي آلياتِنا التعليميةِ والثقافيةِ أن تظهرَ أنَ الخوفَ مما يسميهِ البعضُ بالغزوِ الثقافي هو خوفٌ هُلاميٌ ومبالغٌ فيه ، إذ أنَ الذينَ ليسَ عندهم ما يفقِدونه (ونحنُ لسنا مِن هؤلاء) لا ينبغي أن يتخوفوا من مستجداتٍ ثقافيةٍ سيكونُ معظمَها في الأغلبِ أفضلَ من خِواءِهِم الثقافي ، أما من عِندهم خصوصياتٌ ثقافية إيجابية فإن مجردَ التعاملِ الحُرِ والواسعِ مع الحضارةِ الغربيةِ لن يكنسَ خصوصياتِهم الثقافية الإيجابية ، لأن لهذه الخصوصياتِ جذورٌ أعمقُ وأقوي من أن تكنِسَها الكوكـاكولا والهامبرجر كما يزعُمُ أصحابُ نظريةِ "الذئب ... الذئب" . والدليلُ القائمُ أمام أعيننا يتمثلُ في اليابان والنماذجِ الناجحة في جنوبِ شرقِ آسيا .

الركيزة الرابعة : الإيمانُ بأنَ الدينَ مصدرٌ للأخلاقِ والقيمِ الرفيعة أما النظمُ السياسية والاقتصادية والاجتماعية فتتغير مع الزمانِ ولا يمكنُ الزعمُ بوجودِ نظمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ في أي دينٍ:
فكلُ ما "يتصـورهُ" البعضُ من نظمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تنبعُ من دينٍ من الأديان ، ما هي إلا "أفكارٌ بشرية" إستقاها أصحابُها في ظلِ ظروفٍ معينةٍ من فِهمهم الخاص لخطوطٍ دينيةٍ عامةٍ . وفي هذا المفهوم فأنني أؤمنُ أن الأديانَ يُمكنُ أن تُستلهم كمصدرٍ للقيمِ العليا ، ولكنني أرفضُ زعمَ من يزعم أن الأديان (كالماركسية) قد قدمت حلولاً تفصيلية للمسائلِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ في كل زمانٍ ومكانٍ . وانطلاقاً من هذا الفِهم ، فأنني أرى أن كلمة (العِلمانية) لا تعنى الكُفر أو (إنكارِ الأديان) أو (الإِلحــاد) وإنما تعنى أن البشرَ في كـل زمـانٍ ومكــانٍ موكــولٌ لهم وضعَ النُظمِ السياسـيةِ والقانونيةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ التي تحكمُ حياتهم وتجعلُ ظُروفها على أحسنِ ما يكون . ومعنى ذلك ، أنني ممن لا يَجِدونَ غرابةً في قولِ البعض (على ندرتهم) أنهم يعتقدونَ بعلِمانيةِ الإسلامِ . بل أنني أعتقدُ أن القولَ بذلك يتضمنُ دفاعاً حقيقياً عن الدين ، إذ أنَ ارتفاعه فوقَ مستوى المتغيرات هو ما يليقُ به كدينٍ . وما لم تغرسُ برامِجَنا التعليميةُ ووسائلُ الإعلامِ هذا الفــهمَ للـدينِ ، فإنَ الزمنَ الحالي والأزمنةَ المُستقبِليةَ ستكونُ في صِدامٍ هائِلٍ مع أولئكَ الذينَ يُريدونَ أن يفرِضوا فِهمَهُم للدينِ كمنهجٍ شاملٍ يقدمُ نُظماً مُتكاملةً في كلِ المجالاتِ الحياتيةِ والمجتمعيةِ .

الركيزة الخامسة: الإيمانُ بأن التجاربَ الاشتراكية كانت كارثة في كل مراتِ تطبيقها :
أفْرَدتُ ثلاثةً من كتبي (صدر أولها منذ 22 سنة وصدر آخرُها منذ 18 سنة) لنقدِ الفكرِ والتجاربِ الاشتراكيةِ . وسيبقى اقتناعي راسخاً بأنَ الاشتراكيةَ (بمعناها المُستقى من الماركسيةِ) ستبقى بالغةَ العجزِ عن تحقيقِِ أيةِ وفرةٍ اقتصاديةٍ أو رخاءٍ اجتماعي أو مجتمعٍ يعرفُ الإزدهارَ . وستبقى من أهمِ مهماتِ من يتوخي تنقيةَ الجوِ الثقافي العام في مصرَ من أسبابِ تأخُرِنا إظهـارُ الكوارثِ التي تسببت فيها التجــاربُ الاشتراكية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً . وحتى ما يعتقده البعض من أن التجاربَ الاشتراكيةَ كانت ذاتَ أثرٍ كبيرٍ علي المجتمعاتِ الرأسماليةِ والتي أفرزت نظماً ذاتَ مردودٍ كبيرٍ على العدالةِ الاجتماعيةِ ، فهو في رأيي (خطأٌ صِرف) إذ أنَ الرأسماليةَ تطورت بعوامل ذاتية خلال القرن العشرين تطوراً كان في صالحِ الاعتباراتِ الاجتماعيةِ . ورغم أنني أعطيتُ دراسةَ الفِكرِ والتجاربِ الاشتراكية آلافَ الساعاتِ ورغم أن كُتُبي الثلاثة الأولى كانت في هذا المجال إلا أن إيماني العميق بعجزِ الفكرِ الإشتراكي عن تحقيقِِ أي نجاحٍ اقتصاديٍّ (وهو أساسُ كل أشكالِ النجاحِ الأخري) إنما جاءني من تجربةِ ممارسة العملِ القيادي الإداري في المؤسساتِ الاقتصاديةِ العالميةِ الكبرى ، حيث رأيتُ بعيني أن أدوات النجاحِ لا توجد بالكاملِ إلا في المنظومةِ الرأسمالية ، وأن انتظارَ تحقيقِ نفسِ النجاح عن طريقِ الفكرِ الإشتراكي يماثلُ وهم المتأسلمينَ القائمِ علي اعتقادهم أن المسلمينَ لو إلتزمــوا بدقائقِ دينهم (من الصلاةِ وحتى المسواك) فإنهم سيتقدمونَ على العالم الغربي (الكافر) ؛ فالحقيقةُ أن النجاحَ المنشود ليست له أدوات إلاّ (العلم) و(الإدارة) وكلاهُما في الأزمنةِ الحالية مترعرعٌ في ظلالِ الحضارةِ الغربيةِ . والخلاصةُ ، أنَ تنقيةَ الأدمغةِ والجــوِ الثقافي العام من الأفكارِ والتوجهاتِ والأُطُرِ التي تكونت في ظلِ سيادةِ الفكرِ الاشتراكي هو شرطٌ لازمٌ لوجودِ إنسانٍ عصري قادرٍ علي صُنعِ التقدمِ المنشودِ .

ملاحظة : أعني بالاشتراكية في كل ما ذكرته في هذا الفصل كل المذاهب الاشتراكية المستقاة من "الماركسية" ولا أعني بأي شكل الاشتراكيات التي نمت في الغرب المتقدم (الاشتراكيات المتقدمة) والتي مثالها الأوضح "الحزب الاشتراكي الألماني" ومثيله في السويد وغيرها.

الركيزة السادسة : الإيمانُ بأن تجربةَ مصر في الخمسينات والستينات بحاجةٍ لنقدٍ ذاتـي :
رغمَ الشعبيةِ الواسعةِ لحقبةِ وقيادةِ الخمسيناتِ والستيناتِ ، إلا أنني على يقـينٍ أنَ تقـــدمَ هذا الوطن ونمو عواملِ ازدهارِهِ واستقرارِهِ ستجعلُ الكثـيرينَ من أبـــناءِهِ يُدركون أنه من غير العلمِ والمنطق والحكمة عدمُ مراجعةِ وتقييمِ هذهِ الحقبةِ وممارسةِ نقدٍ ذاتي عقلاني غير منطلقٍ من التَشَيُعِ الوِجداني والتَحَزُبِ السياسي بما يسمحُ برَصدِ الإيجابياتِ كما يَسمحُ برصدِ الأخطاءِ والسلبياتِ . فمن غيرِ المعقولِ أن يستمرَ الكثيرونَ في واقعِنا في الدفاعُ عن الذينَ تسببوا خلالَ الخمسيناتِ والستيناتِ في العـديدِ من النكباتِ وعلى رأسِها نكبةُ الخامسِ من يونــيو 1967 . كذلكَ ، فإنهُ من غيرِ المنطقي أن تمنعَنا مشاعرُ الإعجابِ والوجدانياتِ من الوقوفِ علي الظواهرِ والقراراتِ التي إتُخِذَت إبّانَ تلكَ الحقبةِ وأدت إلي ما طَرَأَ علي واقعِنا من انهيارٍ في التعـليمِ والأخلاقِ والثقافةِ والاقتصادِ والعديدِ من معالمِ مُجتمعِنا وهو ما كان نتيجةً طبيعية لنظامٍ شِمــولي كانَ ضيقَ الصدرِ بالنقــدِ كما أنهُ وأَدَ تِلكَ الآليةَ اللازمةَ لأي تطــويرٍ وتقدمٍ وهي آليةُ النقدِ الذاتي . وإذا كانَ البعضُ يدين حِقبةَ الخمسينات والستينات لصالحِ ما قبل يوليو 1952 ، فإنني لستُ واحداً من هؤلاء ، فما قبل يوليو 1952 لم ينجح – في اعتقادي- في تجاوزِ الواقعِ المؤلمِ والذي تمثلَ في طبقةٍ عليا صغيرة جداً ثم طبقةٍ وسطي صغيرة ثم طبقاتٍ دُنيا تشملُ الأغلبيةَ من الشعبِ في ظلِ ظروفٍ حياتيةٍ لا يمكنُ قَبولُها أو غُفرانِ ذنبِ من سَمَحَ بإستشرائها . كذلك ، فإنني لا أدينُ الخمسينات والستينات لصالحِ العهدِ الساداتي كما يفعلُ البعض ، فأنا أعتقدُ أن السادات كان قائداً ذا رؤية صائبة في الشئونِ الخارجية وأن قرارَ حرب اكتوبر 1973 ثم قرار الإنتقال بالصراعِ لمائدةِ المفاوضاتِ وهو ما أدي لعودةِ كل الأراضي المصريةِ المحتلةِ كانا قرارينِ علي أعلي مستوي من النجاحِ . ولكنني أري أيضاً أنَ إدارتَهُ للشئونِ الداخليةِ كانت أبعدُ ما تكونُ عن الصوابِ ، وأن فِهمَهُ للتحولِ من الإقتصادِ الموجهِ للإقتصادِ الحُرِ وآليةِ ذلكَ كانَ فهماً بسيطاً وخاطئاً . والخلاصةُ ، - هنا - أننا بدونِ تحررٍ من الإرتباطِ العاطفي بحقبةِ الخمسيناتِ والستيناتِ ، سنبقي عاجزينَ عن ممارسةِ عمليةِ نقدٍ ذاتي تُظهِرُ لنا (كمَ) و(حجمَ) الأخطاءِ التي إقتُرِفَت إبّانَ هذهِ الحقبةِ وكانت وراءَ العديدِ من مشكلاتِنا الكُبري لسنواتٍ عديدةٍ . وينطبقُ نفسُ القولِ علي أيٍّ عهدٍ سياسي ، إذ أنَ عمليةَ تقييمهِ تصبحُ مدموغةً بالخطأِ من بدايتِها طالما شابَ التفكيرُ حماسٌ وتعاطفٌ وجداني . فالهوى في اللغةِ العربيةِ كلمةٌ رائعة لأنها تفيدُ (العاطفةَ) كما تفيدُ (السقوطَ) .

الركيزة السابعة : الإيمانُ بحتميةِ الوصولِ لسلامٍ شاملٍ في الشرقِ الأوسط حتى نتجنبَ سقوطَ المنطـقـةِ في يــدِ العُنفِ والماضويةِ والتخلفِ والفقرِ:
الحقُ العربي في فلسطين حقٌ لا يُماري . ولكن بنفسِ القدرِ فإنَ الأخطاءَ العربيةَ في حقِ هذا الحق هي أيضاً حقائقُ لا تُنكر ، وأكبرُ هذه الأخطاء هي النكبات الأربع التالية :
* موقفُ الفلسطينيينَ والعرب من الهجرةِ اليهوديةِ لفلسطين خلالَ نصفِ القرنِ السابقِ لإعلانِ قيامِ دولةِ إسرائيل (بما في ذلك النزوح العربي خارج فلسطين) .
* رفضُ العربِ لقرارِ التقسيمِ في سنة 1947 ثم دخولهم الحربَ ولُقياداتهم علي معرفةٍ بإستحالةِ النصرِ علي ضوءِ حقائِقِ الفوارقِ بينَ الجانبين عسكرياً .
* خطأُ التسببِ (بدون أي مبررٍ) في المواقفِ التي أدت إلي هزيمة 5 يونيو 1967 .
* خطأُ التخلي عن" أنور السادات" منذ قامَ بزيارَتِهِ للقدس في نوفمبر 1977 رغم أن السنواتِ قد أثبتت أنَ (الواقــعَ) و(الممــكنَ) لا يسمحـا بحلٍ أفضلَ مما كانَ السادات يُحاوِلهُ .

فإذا كان الحقُ العربي في فلسطين لا يُماري ، وإذا كانت تِلك الأخطاءُ الأربعة الكبري لا تُنكَر ، فإن من أوجبِ واجباتنا أن نمارسَ عمليةَ نقدٍ ذاتي لكلِ أساليبِ تعاملنا مع الصراعِ العربي الإسرائيلي . وفي يقيني أن عمليةَ النقدِ الذاتي هذهِ ستقودُنا لموقِفٍ معتدلٍ قِوامُهُ الإعترافُ بأن (الحلمَ الأمثل) وهو قيامُ دولةٍ ديموقراطيةٍ لا دينية علي كاملِ ترابِ فلسطين يتساوى فيها اليهودُ والمسلمونَ والمسيحيونَ وغيرِهــم في الحقوقِ والواجباتِ هذا الحلمَ الأمثل غيرُ قابلٍ للتحقيقِ علي المدى القصير بسببِ الأخطاءِ الأربعةِ الكبرى التي ذكرتها أعلاه (ولأسبابٍ غيرِها). وعليه ؛ فإن المنطقَ والحكمةَ يحتمانِ ايقافَ نزيفِ الخسائرِ والهزائمِ والوصولِ في أقربِ وقتٍ ممكنٍ لتسوياتٍ بين اسرائيل وجيرانها يتحولُ بعدها اهتمامُ دولِ المِنطَقةِ لبناءِ مجتمعاتٍ عصريةٍ وقويةٍ (من الداخلِ) عن طريقِِ حياةٍ اقتصاديةٍ ناجحةٍ ونظمٍ سياسيةٍ تقومُ علي الديموقراطيةِ والحُرياتِ العامةِ مع محاولةٍ جادةٍ للحاقِ بركبِ العلمِ والتقدمِ والحداثةِ . وبدونِ جوٍ ثقافيٍّ عامٍ يكونُ مشبعاً بهذهِ الرؤيةِ فسنظلُ ننظرُ للخلفِ عِوَضاً عن توجُهِ وجوهِنا وعقولِنا وأرواحِنا للأمامِ .

الركيزة الثامنة : الإيمانُ بوجودِ ثقافــةٍ عربيـةٍ تَربِطُ العربَ ولكنها لا تنفى الخصوصياتِ الثقافـيةِ الأُخرى وبالتالي ، فإنهُ ينبغي إثراءُ هذهِ الرابطةِ الثقافيةِ دونَ الوقوعِ في خطأِ الاعتقادِ بأَنها تكفي لوجودِ وحدةٍ سياسيةٍ شاملةٍ :
لا شك أنَ (البُعدَ العربي) هو أحدُ أبعادِ ثقافتنا كمصريينَ . ولكن لا شكَ أيضاً أنهُ ليسَ البُعد الوحيد ، فإنَ لنا تاريخاً فرعونياً وقبطياً عظيماً يسبقُ الحقبةَ العربيةَ ، كما أننا تأثرنـا كثيراً بحقيقةِ أننا بلدٌ يقعُ علي البحرِ المتوسطِ ويرتبطُ تاريخياً وجغرافياً وثقافياً بثقافاتِ البحرِ المتوسـطِ . وينطبقُ نفس الشيء علي دولٍ عربيةٍ أخري ، فالبعدُ العربي من أبعادِ ثقافاتِ لبنان وتونس والجزائر والمغرب ، إلا أنَ هناكَ أبعاداً أخري في ثقافاتِ هذهِ البلدانِ لا يمكنُ إنكارُها . وعليه ، فإننا يجب أن نُثري الروابطَ الثقافيةَ العربيةَ ولكن ليسَ علي حسابِ الأبعادِ الأخري . ومعني ذلك أننا نشتركُ مع العربِ الآخرين في الإرتباطِ بالثقافةِ العربيةِ ، دونَ أن يكونَ ذلك مَدعاةَ حديثٍ عن وحدةٍ سياسيةٍ بناءً علي ذلك الإرتباط الثقافي. فلا شك أن بيننا روابطُ لا تُنكر ، ولكنها لا تصلُ لمرحلةِ (فناء الجزء في الكل) . بل إن الحديثَ عن (وحدةٍ سياسيةٍ عربيةٍ) في ظلِ وجودِ أبعادٍ أخري لكلِ شعبٍ تخلـقُ وضعــاً من شــأنه أن يحفزَ (الخصــوصيات) لتـدخلَ في صِدامٍ مع (المناطق المشتركة) وهذا ما حدثَ في الخمسينات والستينات وأدي لفشلِ المشروعِ الوحدوي العربي . وعليه ، فإنَ هناكَ مسئوليةٌ جسيمةٌ ملقاة علي عاتقِ مؤسساتنا التعليميةِ وأجهزتِنا الإعلامية لإصلاحِ الخللِ الذي إستشري خلالَ قرابةَ نصفِ قرن عندما اعتقدنا أنَ ثقافَتنا عربيةٌ صِرف و أهملنا ما لا يُمكنُ إهمالهُ من الأبعادِ غيرِ العربيةِ في ثقافتنا .

الركيزة التاسعة : الإيمانُ بأنَ العولمةَ حقيقةٌ واقعيةٌ لا ينبغي التعامـلُ معها كاقتــراحٍ أكاديمي وإنما التعايش الفعّال مع حقائِقها :
عندما إنهارَ الإتحـادُ السوفييتي والدولُ التي كانت تسيرُ في رِكابِهِ أو تتبعهُ بشكلٍ أو بآخـر ، كان ذلك إيذاناً بإنتهاءِ مرحلةِ الحــربِ الباردة ، وبدأ العالــمُ يري أمامَهُ (دُنيا جديدة) لا تنقسم إلي (مُعسكرٍ شرقي) و(معسكرٍ غربي) . وكان معني ذلك بالنسبةِ للمؤسساتِ الاقتصاديةِ والصناعيةِ والخدميةِ أنَ كلَ أسواقِ العالمِ أصبحت متاحةً أمامها لتصلَ إليها وتتعاملُ فيها مع أسواقٍَ جديدةٍ . ومن رَحِمِ هذا الوضعِ الجديد نشأت الحالةُ التي سُمِيت بالعولمة . وعليه ، فإن (العولمة) بَزَغَتْ من (مطبخٍ سياسيٍّ) يتمثلُ في انتهاءِ الحربِ الباردةِ ومن مطبخٍ آخر (إقتصادي) هو الواقعُ الجديدُ الذي وجَدَ فيه المنتجونَ أنفسهم أمامه . وللأسـف ، فإن هناكَ فارقٌ كبيرٌ-هنا- بين ما (ينبغي أن يكون) وبين (ما هو كائن و ما سوف يكون) . والعولمة تنتمي للظاهرةِ الثانيةِ ، فهي –بمعزلٍ عن العـدلِ أو عدمِ العدلِ والمنطـقِ أو عدمِ المنطقِ- شيء يحدثُ وسوف يحدثُ بشكلٍ أكبر وأوسع في المستقبلِ لأنهُ يعكسُ واقعاً خرجَ من رَحِم أكبرِ الحقائــقِ المعاصرةِ وهي إنهيارِ المعسكرِ الشرقي و إنتهاءِ الحـربِ البــاردةِ . وعلينا أن نبثَ في جوِنا التعليمي والثقافي العام إدراكَ حقيقة أن (العولمة) واقعٌ محتومٌ خرجَ من رَحِمِ الأوضاعِ العالمية الكبري ، وأنها ليست (ذئباً) يجبُ الإختفاءَ منهُ وإنما واقعٌ صعبٌ يمكنُ (بل وينبغي) أن نوجِدَ لأنفُسِنا في ظلهِ مكانةً طيبةً . مع التيقنِ من أنَ العولمةَ (شأنَها شأنُ كلِ الآلياتِ الكبيرةِ في المجتمعاتِ الرأسماليةِ) ستُطَوِرُ من نفسِها ، فلا تمُرُ السنواتُ إلاَّ وقد اصبحت شديدةَ الإختلافِ عن صورتها القاسيةِ الحاليةِ (ليسَ بفعلِ عواملَ إنسانية وإنما لأنَ المصالِحَ ستُملي ذلكَ) .

الركيزة العاشرة : الإيمانُ بأنَ الكثير قد تمَ إنجازهُ في مصر خلالَ العقدينِ الأخيرين، إلا أن الكثير مازال في حاجة لأن يتحقق ، وأن الرِضا الزائد عن الذات أمرٌ في غايةِ الخطورة :
أعتقد أن مصرَ قد شهدت منذُ سنة 1975 (وليس منذ سنة 1981 كما يُكررُ المتزلفونَ دائماً) جهوداً عديدة لإصلاحِ الحياةِ الاقتصاديةِ وجهوداً أقلَ لإصلاحِ الحياةِ السياسيةِ . وأنَ هذهِ الجهود (بدءاً من المُدنِ الجديدةِ في عهدِ الرئيـسِ السادات ومروراً برحلةٍ طويلـةٍ من عملياتِ التطويرِ لاسيما منذُ عام 1991) قد جنبت مصرَ أن تشهدَ انهياراً اقتصادياً واجتماعياً كالذي شهِدَتهُ روسيا وغيرِها . ولكن ذلك لا يعني أن يلتحقَ المفكرُ الحُر بجوقةِ الرياءِ ويأخذُ (معهم) في عزفِ سيمفونيةِ التزلفِ والتملقِ والتي تُصَوِرُ ما حدث و كأنهُ (غايةُ المرامِ) . والحقُ أنَ ما حدثَ هو (بعض) وليس (كل) ما ينبغي تحقيقهُ ، وأن إنجازاتِ الحكوماتِ المتعاقبةِ ليست تفضلاً وإنما هي الحدُ الأدنى المنتظرُ منها ، كما أنه لا يحق لحكومةٍ أياً كانت أن تقارنَ نفسها بحكوماتٍ أخري أقــلُ كفاءة في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة وإنما المنطقي أن نقارنَ أداءَ حكوماتنا بأداءِ حكوماتٍ أخري في دولٍ كانت من العالمِ الثالثِ وحققت من الإنجازاتِ ما جعلَ دُوَلَـها في مصافِ الــدولِ الأكثرِ تقدماً . كذلك ، فأنني أعتقدُ أن ظاهرةَ الرضى عن النفسِ والمبالغة في ترديدِ ما يُكتب مدحاً عن "إنجازاتنا" واحتشادِ الصحفِ بما يقولُهُ عنا "الآخرون" من المدحِ والثناءِ ، هو ظاهرةٌ سلبيةٌ ، وقد ساهمَ الإعلامُ المصري في تضخيمِ هذا العيبِ حتى صارَ مثارَ حديثِ الكثيرينَ في العالمِ ، بل ولا يساورني شكٌ أن بعضَ الجهاتِ في العالمِ تستعملُ هذا الضعف فينا (لسماعِ المدحِ) لتحقيقِِ أغراضِها هي . وقد ثبت أن الغربَ كان يتبعُ نفسَ المنهج مع عددٍ من دولِ آسيا (بل ومع إندونيسيا بالذات) قبل تعرُضِـها للهـــِزةِ الكبيرةِ التي تعرضت لهــا سنة 1997 .

الركيزة الحادية عشر: إصلاحُ التعليمِ المصري :
لا يجادلُ أحدٌ في أن مستوي معــارفِ وثقافـةِ ولغةِ (سواء كانت لغة عربية أو أجنبية) وإتقانِ خريجِ المدارسِ المصريةِ (الحكوميةِ) في العشريناتِ والثلاثيناتِ والأربعيناتِ كانَ أفضلَ بكثيرٍ من مستوي خريجِ المدارسِ المصريةِ اليومَ وخلالِ السنواتِ العشرينَ الأخيرةِ. ولا يجادلُ أحدٌ أن هذا (التدهورَ) هو (تدهورٌ كيفي) أي تدهورٌ في مستوي التعليمِ والقيمِ التي تُكتَسَبُ أثناءَ التعليمِ وليسَ (تدهوراً كمياً) . بل أنني أعتقدُ أنَ (التدهورَ الكيفي) هو نتيجةٌ لعدةِ عواملٍ منها (الحِرصُ علي الكمِ) لا (الكيف) ناهيك عن الإنهيارِ الراجعِ لأخطاءٍ فادحةٍ في البرامــجِ التعليميةِ والإنهيارِ الراجعِ لتدهورٍ لا ينكرُ في مستوياتِ المدرسينَ . وقد حدثت خلالَ السنواتِ العشرِ الأخيرةِ محاولاتٍ عديدةٍ لإصلاحِ التعليمِ إلا أن معظمَ الجهودِ كانت في (الجانبِ الكمي) سواءٌ بالنسبةِ لبرامـجِ التعلـيمِ أو عددِ المدارسِ الجديدةِ وتزويدِها بأجهزةٍ أفضل وذلك لا يمكنُ إنكاره ولكنه لا علاقــةَ له بالمشكلـةِ الأساسيةِ وهي "نوعيةُ" التعليمِ و"نوعيةُ" المدرسِ و"نوعيةُ" القيمِ التي تُغرَسُ في التلاميذِ والطلابِ إبّانَ العمليةِ التعليميةِ . ونحن الآن بحاجةٍ لثورةٍ في التعليمِ تركزُ علي جانبِ القيمِ التي تُزرَعُ أثناءَ التعليمِ ، بحيث نضمن غرسَ قيمِ العصرِ الإيجابيةِ بشكلٍ ثابتٍ وقوي . كذلكَ نحن بحاجةٍ لأن نتوقفَ عن الإجتهادِ في المقرراتِ العلميةِ (أي المتصلةِ بالعلومِ التطبيقيةِ) إذ أن كلُ ما علينا أن نتوقف عن الإبتكار هنا (فلسنا بأيةِ حالٍ من الأحوالِ من روادِ العلومِ الحديثةِ) وأن نكتفي بأن تكونَ مقرراتُ الرياضياتِ والفيزياءِ والكيمياءِ والتاريخِ الطبيعي مجردُ ترجماتٍ للمقرراتِ في الدولِ التي سبقتنا في التعليمِ بسنواتٍ ضوئيةٍ (مثل اليابان) . أما في العلومِ الإجتماعيةِ والإنسانيةِ ، فنحنُ بحاجةٍ لأن نعهدَ لمجموعةٍ من أصحابِ القاماتِ الكبيرةِ (من غيرِ مدرسي المدارسِ) ليضعــوا مقرراتِ هذهِ العلومِ بشكلٍ عصريٍّ وبما يضمنُ خلوها من (أفكارِ الماضويين المسمومةِ) وأن تكون عامرة بقيمِ العصرِ والعلمِ والعملِ الحديثِ .

الركيزة الثانية عشر: الإيمانُ بالإدارةِ الحديثةِ كأساسٍ للتقدمِ الاقتصادي :
لا يوجدُ سببٌ واحدٌ لتقدمِ كل المجتمعاتِ الناجحةِ سوى (الإدارةِ الفعّالةِ) . فالإقتصادُ الأمريكي وإقتصادياتُ أوروبا الغربية واليابان والنماذجُ الناجحةُ في جنوبِ شرقِ آسيا هي أدلةٌ واضحةٌ علي أنَ (الإدارةَ) تجلبُ (الثروةَ) ، وأن العكسَ غيرُ صحيحٍ (فالثروةُ لا توفرُ الإدارةَ الناجحةَ) . بل أن النجاحَ العلمي و التكنولوجي هو ثمرةٌ من ثمارِ الإدارةِ الناجحةِ ؛ وأيضاً فإنَ العكسَ هنا غيرُ صحيحٍ .

الركيزة الثالثة عشر: الإيمانُ بأنَ القطاعَ الخاص هو قاطرةُ التقدمِ الاقتصادي :
أياً كانت مواضعُ القوةِ والضعفِ في الفكرِ الماركسي بوجهٍ عام والفكرِ الاقتصادي الماركسي بوجهٍ خاص ، فإنَ تجربةَ القرنِ العشرين أكدت أن النظمَ الاقتصادية القائمةَ على التخطيطِ المركزي أو الاقتصادِ الموجهِ قد تنجحُ علي صفحاتِ الكتبِ ، أما علي أرضِ الواقعِ فإنها لم تتمكن ولو في مرةٍ استثنائيةٍ واحدةٍ من أن تحققَ أي نجاحٍ . وفي المقابلِ فإنَ كلَ أشكالِ النجاحِ الاقتصادي سواء في التجاربِ الأوروبيةِ الغربيةِ والأمريكيةِ أو في تجاربِ شرقِ آسيا كانت ترتكزُ علي عبقريةِ المؤسساتِ الخاصةِ وقدرتِها علي توليدِ آفاقٍ من النجاحِ ما كانت تخطرُ لأحدٍ ببالٍ . وعليه، فإنَ أملَ مصرَ في ازدهارٍ اقتصادي (يساهمُ في تأسيسِ إستقرارٍ إجتماعي) هو أمرٌ مرهونٌ بنجاحِ القطاعِ الخاصِ المصري في النموِ و تحقيقِ الأهدافِ المنشودةِ من وفرةٍ إنتاجيةٍ وخلقِ فرصِ عملٍ عديدةٍ وتواصلٍ مع حركةِ التوظيفِ التجاري العالميةِ للتكنولوجيا . إلا أنَ القطاعَ الخاص المصري والذي عاني مِراراً من الضرباتِ (في الخمسينات والستينات) ثم من البيروقراطيةِ والفسادِ والتخبطِ التشريعي في سنواتٍ لاحقةٍ يحتاجُ لعمليةِ تنقيةٍ واعيةٍ لبيئةِ الإستثمارِ في مصر حتى يكونَ بمقدورهِ أن يتحولَ إلى الشكل المؤسسي المستهدفِ وهو ما سيسمحُ له بتحقيقِ النهضةِ المرجوةِ بما تعنيهِ من عوائدٍ إقتصاديةٍ وإجتماعيةٍ .

الركيزة الرابعة عشر: شيوعُ ثقافةٍ إيجابيةٍ تجاهَ المرأةِ والأقلياتِ :
لا يمكن تحقيقُ النهضةِ الكاملةِ المرجوةِ ونصفُ المجتمعِ (النساء) يعانينَ من ثقافةٍ ذكوريةٍ قرون أوسطية . وبنفسِ القدرِ فإنَ السلامَ الإجتماعي المنشود يقتضي أن تأخذَ الأغلبيةُ مُبادرةَ معالجةِ كلِ مشاكلِ الأقلياتِ في إطارٍ من الروحِ الحضاريةِ القائمةِ علي إحترامٍ عميقٍ للآخرِ وبعيداً عن الروحِ القرونِ أوسطية من الأقلياتِ .

الركيزة الخامسة عشر: وجودُ جهازٍ أو أجهزةٍ إعلاميةٍ عصريةٍ وحُرةٍ :
دورُ الإعلامِ هو تسليطُ الضوءِ علي الحقائقِ العالميةِ والمحليةِ والمشاركةِ في كشفِ الأخطاءِ إلى جانبِ الإثراءِ الثقافي والمُتعُ الراقيةُ . أما أجهزةُ الإعلامِ التي نشأت في العالمِ الثالثِ عن طريقِ خبراءٍ ألمانٍ شرقيين من تلامذةِ مدرسةِ جوبلز فإنها إما تندثرُ مع التطورِ العالمي وإما أن تواصلَ عملياتِ الإضرارِ البالغةِ بالرأي العام (واللبيب بالإشارة يفهم) .

وفي إعتقادي أن قيامَ وترويجِ مشروعٍ ثقافي لمصرَ المستقبل ينهضُ علي أساسٍ من تلك الركائز هو أمرٌ علي أعلي درجةٍ من درجاتِ الأهميةِ ؛ وهو كذلك أمرٌ ممكنٌ وغيرُ عسيرٍ متي وُجِدَت (الرؤيةُ) ولم نبق أسري الركائِزِ الأخري التي سيكونُ تمسكنا بها تمسكاً تراجيدياً بكلِ أخطاءِ وهزائِمِ ونقائصِ ومشكلاتِ واقعنا خلالَ نصفِ القرنِ الأخيرِ .

وإذا كانت تلكَ الركائزُ تضعنا في خلافٍ مع معظمِ الأيدولوجيينَ ، فليكن عزاؤُنا أننا نعرفُ جيداً ما الذي يمكنُ أن يقودَنا إليه الأيدولوجيونَ من تأخرٍ وتشرذمٍ وهياجٍ اجتماعي وبعدٍ عن العصرِ وإنجازاتِه وربما العودةُ عدةَ قرونٍ للخلفِ .
(مجلة أكتوبر 13/2/2000).