نحن والغرب والأحكام الخاطئة .


"فكرةُ الغربِ عنا" أيّ عن العربِ والمسلمين فكرةٌ تقوم على أَساسِ أننا في غالبيتنا نتسم بمعادةِ الإنسانيةِ والحضارةِ وندعو لحياةٍ تقوم على أُسسٍ مختلفةٍ عن باقي الناس كما تقوم على أننا نتسم بالميلِ الشديدِ للعنفِ والقسوةِ وتبرير إستعمالهما مع الآخرين والميل للإعتقاد بأن "محاربةَ الآخرين" هي من أساسيات تكويننا العقلي. أما نحن فإن معظمنا (أن لم نكن جميعاً أو ما يقرب من كلنا) نؤمن أن هذا "ظلمٌ بيّنٌ" و "افتراءٌ" وأن فكرة الغربِ هذه "عناّ" مختلقةٌ أما بدافعِ "الكراهيةِ لنا" أو "الخوف منّا" أو بدافعٍ من "إحتقارِ الغربِ لنا".

ورغم أنني أعرفُ يقيناً أنني أدخل عش الدبابير بصياغتي لوجةٍ نظري في هذا الشأن، إِلاَّ أنني أجدُ أن هذه هي مهمة كلِ مفكرٍ يعتقد أن رسالته هي المساهمة (وان كانت صغيرة ومتواضعة) في إحداثِ تغييرٍ إيجابي في الواقع. وعليه، فإنني أَبدأُ بالمجاهرة بأن تجربتي الفكرية والعملية في التعامل مع الجانبين (نحن والغرب) تجعلني مطمئناً للإعتقاد بأن الفريقين على خطأ كبيرٍ في تصورهما. فالعرب والمسلمون أغلبيتهم (مثل معظم البشر في العالم) لا يتسمون بميلٍ يفوق ميل الآخرين للعنفِ والقسوةِ ولا يسعوّن لمحاربةِ الآخرين حتى يسيروا على ملتهم ونهجهم ...إِلاَّ أن الواقعَ يؤكد أن هناك تياراً في واقعنا تنطبق عليه كل هذه الصفات وهو التيار الذي يصرّ على تحويل الدين الإسلامي العظيم إلى "سياسة صرف". فبعضُ هؤلاء هم الذين تنطبق بعض أو كل الصفات المذكورة عليهم. وهكذا ، يبدو الفريقان على خطأ بيّن: فالغربُ يسحب صفاتٍ سلبيةٍ تتوفر في القليل جداً من العرب والمسلمين ويجري تعميماً غير علمي وغير صادق وغير دقيق على "كل العرب والمسلمين". والغرب في ذلك يرتكب "غلطةً مزدوجةً" : فهو يسقط في تعميمٍ مغلوطٍ ...وهو من جهة أخرى يعلن إعترافاً ضمنياً إما بغيرِ قليلٍ من "الجهل" أو "بالتوجه السياسي المغرض" والذي يريد أن يوَّظف الثقافة والمعرفة بالتاريخ والحضارات والثقافات توظيفاً سياسياً محضاً (وهذا هو بالتحديد ما قام به غربيون كثيرون مثل صمويل هنتنجتون وغيره). كذلك فإننا نرتكب من جهتنا غلطةً لا تقل في فداحتها عن غلطةِ الغربِ عندما نتصدى لمقولة الغرب عنّا في هذا الشأن بتبنينا لوجهةِ نظرٍ تقول أن الغربَ يختلق كل تلك السمات والصفات والنعوت : فالحق أن الغرب لا يختلقها اذ أنها موجودة بيننا ومن السهل التدليل على ذلك – ولكن الغربَ يخطئُ خطأً بالغاً عندما يصف معظمنا بما لا يوجد إِلاَّ في أقل القليل منّا (وهذا القليل توجد في كل المجتمعات نسب مئوية منه: فرغم كراهيتي للتعصب في شتى صوره وأشكاله، فإنني أعتقد أن الجناحَ المتطرف بين اليهود يتسم بدرجة من التطرف لا مثيل لها في العالم وأن بين مسيحي الولايات المتحدة من يحمل من التطرف في مواجهة "الآخرين" ما يثبت أن التطرف من القواسم المشتركة بين كل الجماعات الإنسانية – ولكن العبرة بمدى تعامل المجتمعات مع هذا "الطفح" المتواجد (بنسبٍ مختلفةٍ) في كل المجتمعات).

ويكفي لإثبات إستعداد البعض في الحضارة الغربية للتطرف إصرار أجهزة الإعلام الغربية على ترجمة كلمة (الله) إلى ALLAH وليس God - رغم أن الكتاب المقدس للمسيحيين واليهود يستعمل كلمة (الله) (راجع مطلع المزمور 16 على سبيل المثال)...وذلك لتثبيت أن المسلمين يعبدون إلهاً خاصاً بهم وليس (الله) المشترك بين الديانات الإبراهيمية الثلاث.

والخلاصة: أن "السياسة" هي التي تحرك أعداداً كبيرة من الغربيين تجاه الثبات على أحكامِ الغربِ التعميمية في حق العرب والمسلمين ...ووراء السياسة تقف المصالحُ (لاسيما في العقل الأنجلوسكسوني الذي يضمر فيه دور "المبادئ" ويتعاظم فيه دور "المصالح"). وعلى الجانب الآخر: فإننا نقف كثيراً موقف التقصير البالغ في حق أنفسنا ونمارس الدور الذي أتقناه خلال تاريخنا الحديث وهو أن نكون أسوأ المحامين عن أمورنا: ويتجلى ذلك عندما تتبنى "الأغلبية" في جانبنا مفردات خطاب "الأقلية" وتتعامل مع "الآخرين" من منطلقات فكر الخوارج والذي تتسم به أجنحةٌ عديدةٌ من أجنحة الإسلام السياسي : فنتحدث عن "الجهاد" بمعنى "مقاتلة الآخرين" وكأنه ركن الأساس في ديننا (والأمر ليس كذلك – وأُحيل القراء إلى كتاباتٍ بالغِة العمقِ في هذا الصدد للمفكر المصري المستشار محمد سعيد العشماوي) ونتحدث عن الآخرين (وبالتحديد المسيحيين واليهود) مستعملين صفة "الكفار" رغم أن الإسلام لا ينظر للمسيحي أو اليهودي ككافر ...إلى آخر تلك السقطات التي يهوى إليها البعضُ منا بدافعِ الإنفعالِ والعاطفةِ والغضبِ من ظلم الغرب لنا وميل بعض الغربيين للكيل بأكثر من مكيال وإزدواجية المعايير...وهو ما لا يجب أن نسقط فيه لأن "العقل" كلمة عربية مستقاة من "إلجام الجموح" وهو ما يأخذنا إليه الإنفعال والعاطفة والغضب. ومن جهة أُخرى ، فإن الغربَ ليس بدرجةِ السوء التي نظن. فالغرب مشغول بمصالحه وليس بالتآمرِ علينا كما يظن الكثيرون منّا. والغرب لا يعطينا (سر السلاح) و (سر الدواء) كما ذكر كاتبٌ كبيرٌ منذ أيام، ولكننا عندما نقول ذلك فإننا نرتكب مجموعة من الأخطاء في نفس اللحظة : فالغربُ حصل على سر السلاح وسر الدواء بالعمل والجهد وليس بالحصول عليه من آخرين ...والغرب لا ينتظر منه عاقل أن يمنح (سر السلاح وسر الدواء) للآخرين في تصرف ملائكي يخالف طبيعة البشر...ونحن أنفسنا لو كان لدينا (سر السلاح وسر الدواء) والآخرون محرومون منهما فلا يوجد دليل واحد أننا كنا سنتصرف بملائكية ونمنح الآخرين (سر السلاح وسر الدواء) …وأخيراً ، فإن عدم حيازتنا لسر السلاح وسر الدواء هو أمر ينبغي أن نلوم أنفسنا لا الآخرين علي كونه حقيقة قائمة تشهد بالتقاعس لا بالبراءة. وإذا بذل مفكرٌ جهوداً مضنية ليثبت أن الغرب لم يتدخل بالكيفية التي رأيناها في أفغانستان إِلاَّ لمصلحته لقلنا له أنك ما كنت بحاجةٍ لبذل الجهد لتثبت وجود الشمس في كبد السماء ونحن جميعاً نراها فوق رؤوسنا.

ولا أجدُ ما أختم به هذا المقال أفضل من حديثٍ عابرٍ لشخصٍ غير مهتم بالسياسة سمعته منذ أيام يقول: ( في كل مرة نُهزم فيها في لعبة كرة القدم فإننا نوجه اللوم إما للحكم المتآمر ضدنا أو للجمهور المعادي لنا أو للطقس أو لظروف الرحلة إلى المباراة...ولكننا لا نسمع في أيةِ مرةٍ لوماً لللاعبين أو لاتحاد الكرة! ) ... قال المتحدث هذا وهو يظن أنه لا يتكلم في السياسة ...وما أَفدح خطأه !
(الأهرام 28 سبتمبر 2001) .