هـل للإبداع والفكـر "جنسـية" ؟


في السنوات العشر من 1960 إلى 1970 كنت محظوظاً إلى أبعدِ الحدودِ عندما وفرت لي مجموعةٌ من الظروفِ والأسبابِ والدوافعِ أن أقرأ (بنهمٍ وحبٍ عميقين) معظمَ كلاسيكيات الأدب العالمي . ففي هذه الفترة طالعت روائعَ الأدب الروسي ولا سيما الأعمال الفذة لكتابِ وشعراءِ روسيا العظام أمثال بوشكين وجوجول وترجينيف وديستويفسكي وتولستوي وتشيكوف ومايا كوفسكي وغيرهم . كذلك غطت الرحلةُ أعلامَ الأدبِ الألماني (والأدب الذي يُكتب بالألمانية) منذ جوته وشيللر إلى ديرنمات مروراً بأدباءٍ وشعراءٍ عظام مثل هاينى وتوماس مان وكافكا وبريخت . وكذلك أعلام الأدب الإيطالي منذ دانتي إلى بيرادنللو وعشرات الأعلام الأفذاذ من بريطانيا وفرنسا وأسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية مثل شكسبير وراسين وفلوبير وديكينز وبرناردشو واناتول فرانس ولوركا والبيركامو وسارتر وفوكنر وهيمنجواى واليوت وتنيسى وليامز وآرثر ميللر وناتالي ساروت وصمويل بيكيت ويونيسكو .. وعشرات غيرهم إلى جانبِ أعلامٍ من بلدان أخرى مثل هنريك ابسن عبقري النرويج . وساهم في إتاحة هذه الفرصة لأمثالي ممن خُلقوا وفي دمائهم حبُ الإبداعِ وجودُ حركةٍ نقديةٍ عارمةٍ في تلك الأيام مع حركةِ ترجمةٍ موازيةٍ كانت تتخذ من لبنان رأس حربة لها . وبسبب الحركة النقدية عرفنا ما الذي علينا أن نقرأه من كلاسيكيات الآداب العالمية ومن حركة الترجمة التي كانت تشع من بيروت تابعنا – عن كثب – إبداعاتِ البشريةِ دون عائقٍ من عوائقِ اللغة (قبل أن يكون بوسعنا أن نطل على تراث البشرية من نوافذ لغات أوروبية كنا وقتئذٍ نملك القليل من مكنها ) .

وكان النقادُ الكبار وقتئذٍ أمثال محمد مندور ولويس عوض ومن ورائهما الدكتور عبد القادر القط والناقد الشاب اللامع رجاء النقّاش هم السلة التي كنا نقطف منها الدليل والبوصلة تجاه ما ينبغي أن يُقرأ من ثمارِ العبقريةِ الأدبيةِ العالميةِ ، كما كان بعضُهم يقودنا أيضاً لعالمٍ وعرٍ آخر هو عالم الفلسفة الغربية وعددٍ كبيرٍ من العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والاقتصاد السياسي وعلم النفس والاجتماع وغيرها . ولعل الدكتور عبد الرحمن بدوي ثم الدكتور يوسف مراد ثم الدكتور زكي نجيب محمود ثم الدكتور مراد وهبه كانوا بمثابةِ الأضواءِ الكاشفةِ والهاديةِ لساحاتِ تلك الأودية من أودية الفكر الإنساني .

وخلال تلك السنوات لم تكن عند كاتبِ هذه السطور أيةَ فكرةٍ عن الانشقاقِ الذي سيميز حياته بعد ذلك عندما تنقسم إلى نهرين : نهر العمل (في مجال اقتصادي هام هو مجال البترول وبالتحديد في مجال الإدارة العليا في صناعة البترول) ونهر الهواية (والذي سيظل محتفظاً بنفسِ الولعِ بالأدبِ والفلسفةِ وفنونِ الموسيقى والفنونِ التشكيلية) .

وخلال تلك السنوات (1960-1970) لم يدر بخلدي قط (كما لم يدر بخلد كل أقراني ممن أحبوا المعرفة والثقافة وشغفوا بهما ذلك الشغف الطوفاني) أن نتساءل عن جنسيةِ ما نقرأ . فقد كنا نحب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبدر شاكر السياب ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور و سهيل إدريس ومحمد ديب ويحيى حقي كما كنا نحب عشرات الأسماء غير العربية (والتي ضربت أمثلة لها في مستهل هذا المقال) دون أن نشعر بأن يوسف إدريس مصري وسهيل إدريس لبناني ومحمد ديب جزائري ويوجين يونيسكو روماني وجراهام جرين بريطاني والبير كامو فرنسي والبرتو مورافيا ايطالي وابسن نرويجي ويوجين يونيل أمريكي .. لم نكن نشعر بذلك ولم يكن يعنينا ذلك ، لأننا كنا قد نشأنا في ظلِ مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ كان يُقدم لنا الإبداعَ بصفته ظاهرة عبقرية إنسانية دون أدنى لمسة شوفينية ودون أي خوفٍ من التعبيرِ المريضِ الذي بدأنا نسمعه لأول مرةٍ في أواخر الستينات وأوائل السبعينات وهو تعبير "الغزو الثقافي" .

وللأسف الشديد فقد واكب استعمال البعضِ لهذا المصطلح الرديء (الغزو الثقافي) نمو تيار سلفي لم يكن له أي تأثير على المثقفين في عقدِ الستينات . ومع وجودِ هذا المفهوم الجديد وشيوع أفكارٍ سلفيةٍ مخاصمةٍ للعصر والحضارة ورافضة لفكرةِ أن مسيرةَ التمدنِ الإنساني قد إستقت عناصرَها من عناصرٍ وحضاراتٍ وثقافاتٍ شتى ، أصبح عدد الذين يؤمنون بكابوس الغزو الثقافي أكثرَ وأكبرَ .

ثم جاء التراجعُ القوي في الحركةِ التعليميةِ وفي الحركةِ الثقافيةِ خلال السنوات التي تلت منتصف السبعينات ، ليساهما في استفحالِ الرعبِ (الوهمي) من الغزو الثقافي ، مع ما صاحب ذلك من تقسيمٍ معيبٍ للحضارةِ الغربيةِ إلى شقين : شق مادي يتمثل في الآلات والعلوم التطبيقية والتكنولوجيا وشق معنوي هو كل الفكر والثقافة والفن التي أنتجتها تلك الحضارةُ . وهنا بدأ البعضُ (ممن يؤمنون بخرافةِ الغزو الثقافي) يروّجون لفكرةِ أن علينا أن نأخذ من الغربِ بضاعته المادية فقط (أي العلم التطبيقي والآلات والتكنولوجيا) وأن نتجاهل كل ما عدا ذلك (من فلسفةٍ وأدبٍ وفكرٍ وفنونٍ) . وقد غاب عن هؤلاء أمران كبيران :

الأول : أن الشق المادي في الحضارة الغربية هو ثمرةٌ طبيعيةٌ للشقِ غير المادي (أي الثقافي) لهذه الحضارة . فقد بدأت الحضارةُ التي يسميها البعضُ اليوم بالحضارةِ الغربيةِ بالفكرِ والفنونِ والآدابِ وعندما خلقت مُناخاً عاماً إيجابياً وخلاقاً يسمح بتفتق الإبداع أنطلق "العلمُ التطبيقي" في إبداعاته المتوالية .

والثاني : أن ما يسمى بالحضارةِ الغربيةِ ليس غربياً بشكلٍ كلىٍّ . فالحضارةُ الغربية تتكون من مادتين ، الأولى مادة إنسانية وليست غربية ، وأعني بذلك خلاصة تراكمات الحضارات والثقافات الإنسانية الأخرى . أما الثاني فغربي محض . وهذا أمرٌ منطقي ، فالحضارةُ الغربية لها بعدها الإنساني ( أي كونها ثمرة حركة التمدن الإنساني بوجه عام) كما أن لها بعدها الغربي (والمتصل أساساً بتاريخ أوروبا الغربية منذ نهاية القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة) .

وما يجب علينا أن نبذل قصارى الجهد لغرسه الآن وفي المستقبلِ في أذهانِ وعقولِ وضمائرِ الناشئة في مصرَ أن الإبداعَ لا جنسية له وأن الفكر كذلك بلا هوية وأن اشتراكنا مع الإنسانية في التعرف على ثمار الإبداع والعبقرية والعقول الإنسانية لا يمثل هجوماً على خصوصياتنا ، وأننا بوسعنا أن نكون مثل جيل لطفي السيد وطه حسين وأحمد أمين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ مصريين إلى أبعدِ حدٍ وعلى معرفةٍ بإبداعاتِ الإنسانيةِ الفذةِ دون أن يجنى ذلك على خصوصياتنا أو أن ينتقص من هويتنا الثقافية ، فقد كان طه حُسين من أكثر المصريين معرفةً وحباً لآداب اليونانيين القدماء وللأدب الفرنسي دن أن ينقص ذلك من معرفته الواسعةِ والعميقةِ بآدابنا وتاريخِنا العقلي .

أن مصرَ وهي تقفُ على أعتابِ القرنِ الحادي والعشرين بحاجةٍ لصلحٍ ثقافيٍّ بين ما هو "إنساني" وما هو "خصوصي" – وستجد أن ذلك الصلح ممكن وسهل وفعّال ومُجدي وقادر على التعامل مع معطياتِ وتحدياتِ العصر أكثر من قدرة أولئك الذين وصفتهم في كتاب حديث لي بأنهم (محليون للنخاع) .
(الأهرام 18/10/1999) .