حـديث عن "الكاريزما" …


كثرت خلال الشهور الأخيرة الكتاباتُ والمقالاتُ بالصحف المصرية عن شخصية سياسية كتبت الأكثريةُ معبرةً عن ولعها وافتتانها بها وكتبت مجموعةُ محدودةُ تنتقد هذه الشخصية وتدمغها بأَنها لم تكن أكثر من "ظاهرةٍ صوتيةٍ" … وأننا لو حاسبنا صاحبها على الأفعال والأعمال وليس على الأقوال لكان خالي الوفاض أو شبه خالٍ من الإنجازات … وعلى النقيض فإننا لو عوّلنا على أقواله لكانت كفتُه راجحةً للغاية. وقد أغرتني الظاهرةُ والكتاباتُ التي تدفقت عنها للتفكير في مسألةٍ قريبةٍ منها وليس للتفكير في الظاهرةِ نفسهاِ : أنعمت النظر وأمعنت الفكر في الكلمة التي رددها معظمُ الذين كتبوا عن هذه الظاهرةِ وأعني كلمة "الكاريزما". وأغلب الظن أن الذين إستعملوا هذه الكلمة كان قصدُهم القدرة على نيل إعجاب الناس والتواصل الوجداني معهم والتأثير عليهم – وهو المعنى الذائع للكاريزما – وأغلب الظن أنه المعنى المشترك في تفكير معظم الناس .

وقد إنصب تفكيري على نقطةٍ محددةٍ وهي أن الذين يتحدثون عن الكاريزما وأحياناً يطربون لها يغفلون في معظم الأحوال جانباً بالغ الأهمية من المعادلة "معادلة الكاريزما" . فإذا كانت الكاريزما هي إثارة إعجاب الناس والقدرة على التأثير عليهم... فإنه يكون من حقنا أن نتسأل : بهدف ماذا! ... وإذا كان الجواب: بهدف الإعجاب والافتتان في حد ذاتهما، فإننا نقول أن ذلك يأخذنا لعالم السينما ونجومها أكثر مما يأخذنا لعالم السياسة ورموزها. إذ أن المنطق يحتم أن يقول القائل: التأثير على الناس بهدف ماذا ؟ … أي التأثير على الناس بهدف قيادتهم أو توجيههم إلى ماذا؟ … ولا شك عندي أن هذه النظرة الغائية حتميةُُ إذا كنا ننظر للرموز السياسية كأشخاص لهم رسالة وليس مجرد نجوم لامعة في سماء الحياة العامة. فإذا كان ذلك كذلك، فإن السؤال الهام لا يكون هو: ما هي الكاريزما؟ … لاننا متفقون على انها القدرة على نيل إعجاب الناس والتأثير عليهم ولكن يكون السؤال الأهم هو : التأثير على الناس لفعل ماذا ؟ … والتوجه لأَية جهة ؟ … ويفتح هذا القول المجال على مصرعيه للحديث عن أهداف الكاريزما… وغايتها…ودرجة الكفاءة التي تتحلى بها… وقدرتها الفعلية الواقعية على إحداث تغير أفضل في الواقع.

وخلاصة هذا الكلام أنه إذا كانت الكاريزما هي القدرة على التأثير في الناس فإن الأهم هو من أجل ماذا ؟

وهكذا يتضح أن وقوف البعض عند النصف الأول من معادلة الكاريزما وهي التعريف والذي يتفق معظم الناس على انه نيل إعجاب الناس والقدرة على التأثير فيهم هو امر بلا محتوي وصورة بلا جوهر وفقاعة بلا رسالة وطريقة لتألق الشخص وحصده للشعبيةِ والجماهيرية والشهرة والذيوع والشيوع دون أن يكون لكل ذلك أثر إيجابي على الواقع أي على أولئك الذين تولدت في نفوسهم مشاعر الإعجاب والإفتتان بالشخصية الكاريزمية – فالكاريزما هي الجسر الى شئ ما… فإذا كان هذا الشئ هو مجرد شهرة صاحبها فإن الشعوب الواعية تقول لهذا النموذج… كفى لعباً فإن عهد الكاريزما التي تفيد أصحابها قد إنقضى ولم تعد المجتمعات الناضجة تقبل أن يكون مسرحاً لشهرة وجماهيرية وتألق بعض الشخصيات العامة لمجرد الشهرة والجماهيرية والتألق، فما لم يكن ذلك مقترناً بأهداف وبرامج محددة لصالح الواقع مع قدرة مواكبة على إحداث التغيير فإن المجتماعت الناضجة تنظر لمثل هذه الشخصيات الكاريزمية نظرة مشوبة بالتحفظ الشديد وتعرف أن تكلفتهم باهظة: فهم يتألقون ليقودوا المعجبين بهم إما إلى (لا شئ ) أو إلى (واقع أسود) .

ومن اجل ذلك، فإن العالم الأكثر تقدماً يشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إنحصار الظاهرة الكاريزمية المجردة من تحديد الأهداف والكفاءة أي القدرة على تحقيق تلك الأهداف – وأصبحت الحياة السياسية تفرز نموذج قد يكون متحلياً أحياناً ببعض الكاريزما إلاَّ أن مؤهله الأول هو الكفاءة ووضوح البرنامج والأهداف مع القدرة على بلوغِ وتحقيقِِ تلك الأهداف. وفي نفس الوقت فقد ظل العالم الثالث مسرحاً فسيحاً للشخصيات الكاريزمية التي لا تملك إلاَّ القدرة على إثارة الإعجاب وتحميس الجماهير دون أن يؤدي ذلك الى تجويدٍ واضحٍ في الواقع: فعندما تقل المستوياتُ العلمية والثقافية... وعندما يكون الهامشُ الديموقراطي وهامشُ الحريات العامة غيرَ واسعٍ فإن المسرحَ يكون متاحاً وواسعاً للغاية أمام الموديل الكاريزمي الذي يملك إثارة الإعجاب والتأثير الوجداني دون أن يملك القدرة الكبيرة على الإنجاز الحقيقي المتمثل في إصلاح وتجويد وتحسين الواقع. ولا يمكن الحديث عن الكاريزما دون الحديث عن التغير الذي طرأ خلال نصف القرن الأخير في نموذج الشخصيات العامة الفعالة إذ أصبحت الحاجة لهذا البعد الكاريزمي والقدرة على الخطابة والتأثير التمثيلي في الناس أقل فاعلية في مواجهة تحديات الحياة المعاصرة والتي جعلت الحكام ورؤساء الوزارات والوزراء والشخصيات السياسية الناجحة في الدول ذات النصيب الأوفر من التقدم خلطة ما بين (السياسي) و(القائد التنفيذي الفعال والناجح)، وتدل التجارب الآسيوية والعديد من تجارب أمريكا اللاتينية وبعض تجارب أوروبا الشرقية على أن الذين نجحوا في التعامل مع تحديات العصر هم أولئك الذين إتسموا بتلك الخلطة ما بين السياسي والقائد التنفيذي الفعَّال إذ أن تعقد وتركيبية تحديات العصر تجعل مهمة الإصلاح والتقدم والنجاح شبه مستحيلة أمام الذين لا يملكون إلاَّ البعد الكاريزمي : فماذا يفعل هذا البعد الكاريزمي عندما يكون عليه أن يتعامل تعاملاً ناجحاً مع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعقدة والمركبة لعصرنا هذا؟ التحديات هنا تحتاج للعديد من القدرات المكتسبة من عدد واسع للغاية من مجالات المعرفة الكلاسيكية والحديثة مع موهبة القيادة التنفيذية وهي أمور لا تتوافر لمجرد توفر السمة الكاريزمية. وإذا كان لي أن أعود لمن كتبوا مؤخراً كثيراً عن الكاريزما، فإن سؤالي لهم يكون كالتالي : ما كان ينبغي أن يكون محور الحديث حول توفر أو عدم توفر الطبيعة الكاريزمية لمن تناولتم وإنما كان ولايزال الواجب أن يتجه السؤال عما أنتجته تلك الطبيعةُ الكاريزمية من نتائج محققة : فالكاريزما في حد ذاتها عادت على أصحابها بالشهرة والتألق… ولكن أثر الكاريزما بالنسبة للمجتمعات يبقى مربوطاً بالنتائج … فهل إقتصر الأمر على شهرة الذين اشتهروا … أم أنهم أستثمروا قدراتهم التأثيرية على الناس في إحداث تغير إلى الأفضل في الواقع؟ وأَغلب الظن (والحديث هنا عام وليس مرتبطاً بأية شخصية محددة) أَن معظم الشخصيات الكاريزمية في العالم الثالث تجذب الشهرة والجماهيرية لأصحابها مع أثر إما "معدوم" أو "سلبي" في معظم الحالات إذ تتطلب الكاريزمية (في معظم وليس في كل الحالات) من صاحبها أَلاَّ يقود الجماهير فعلياً لواقع أفضل وإنما يقول للجماهير ما يودون سماعة ، أي أنه يهبط بمستوى الرؤية، فلا يكون من الممكن عملياً الرقي بالواقع وإحراز نتائج إيجابية ملموسة في الحياة .

إن نظرةً سريعةً إلى واقع الدول الأكثر تقدماً وإستقراراً خلال نصف الفرن الأخير ترجح ما يلي: إن السمة الكاريزمية لم تشفع في هذه المجتمعات لعددٍ من أصحابِها عندما أستقر في عقول الرأي العام أن أداء هؤلاء إما لم يعد مناسباً أو أن هناك آخرين يملكون من القدرة على الأداء أكثر مما يملك هؤلاء الكاريزميون – وأشهر الأمثلة على ذلك رئيس وزراء بريطانيا الأشهر ونستون تشرشل صاحب الكاريزما العالية مع محصول ثقافي يندر توفره بهذا الثراء عند رجال السياسة إذ نراه في سنة 1945 وبعد قيادته للحرب ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية وخروجه منتصراً من هذه الحرب في نفس السنة يفشل في أن يحقق نصراً إنتخابياً على منافسه كليمنت أَتلي في الانتخابات البريطانية العامة رغم الكاريزما المصحوبة بالنصر الهائل على قوى المحور في الحرب العالمية الثانية. وكذلك مثال الزعيم الفرنسي الأشهر شارل ديجول صاحب الكاريزما العالية التي لم تشفع له بعد 11 سنة من حكم فرنسا فإضطر (عندما عارض الرأي العام أداءه في مواجهة الثورة الشبابية في فرنسا 1968) للاستقالة وهو بطل تحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية والقائد الكاريزمي الكبير.

أن أصحاب الإنجازات الكبرى أمثال أدينهاور في المانيا و لي كوان يو في سنغافورة ومهاتير محمد في ماليزيا كانوا من أصحاب الكفاءة العالية والأداء الفذ والنتائج الكبيرة دون أن يكونوا من أصحاب الكاريزما.

أن أصحاب الكاريزما الكبيرة الذين كلفوا أوطانهم خسائراً هائلةً وثمناً فادحاً يملأون قائمةً كبيرةً يعرفها معظمُ الناس وعلى رأسها يتربع الرئيس العراقي صدام حسين- وعددُ من هؤلاء سيترك وطنه محطماً أو شبه محطم لأكثر من قرن من الزمان وكانت أوطانُهم بدون زعاماتهم الكاريزمية على أعتاب التقدم ولا تحتاج إلا لحسن التخطيط والإدارة والتنفيذ والرقي المتواصل القائم على المزاوجة بين الحكمة وبعد النظر والإدارة الفعالة.

ولعلي لا أجد مثالاً يدل بوضوحٍ تامٍ على توفرِ الكفاءة والفاعلية والقدرة على مواصلة التقدم والرقي دون أية سمة كاريزمية أكثر من عددً كبيرً من حكومات شمال أوربا بوجه عام وسويسرا بوجه خاص حيث لا يساورني شك ان معظم القراء يعرفون مدى تقدم هذه الأمثلة مع يقين مماثل أن 90 في المائة من القراء (على الأقل) لا يعرفون إسم رئيس سويسرا الحالي أو إسم أية قيادة سياسية أو تنفيذية فيها- فنحن هنا أمام مثال قاطع على توفر التقدم والرقي والكفاءة في ظل غيبةٍ كاملةٍ للكاريزما التي قد تصلح لعلاج بعض الإحتياجات النفسية (وربما العصبية أيضاً) ولكنها لا تجدي فتيلاً في إصلاح الواقع وتجويد نوعية الحياة وإحراز تقدم حقيقي يضمن الإستقرار والإزدهار.
(الأهرام 18/8/2001) .