أين تلامذة "أحمد لطفي السـيد" ؟


في مستهلِ القرنِ العشرين تأسس في مصرَ حزبان سياسيان يُجسد كلٌ منهما توجهاً مختلفاً في الفكر والعمل السياسيين . ففي سنة 1905 تأسس حزبُ الأمة كنتيجةٍ لجهود أحمد لطفي السيد ، كما تأسس في سنة 1907 الحزبُ الوطني كتتويجٍ لجهود مصطفى كامل . وكان لحزب الأمة صحيفة معروفة تعبر عن فكره وجوهر عمله السياسي وهى "الجريدة" كما كان للحزب الوطني صحيفة معروفة تعبر عن فكره وجوهر عمله السياسي وهى "اللواء" . ويمكن في عجالةٍ وصف الفكرِ السياسي لحزبِ الأمة بأنه كان فكراً اصلاحياً يقوم على التحديثِ والتطوير التدريجي لأحوال الشعب المصري مع بعدٍ كبيٍر عن "المنهج الثوري" وبُعدٍ مماثلٍ عن الخطابةِ الرنانةِ والشعاراتِ الكبيرة والدعاوى النضالية الصدامية و بعدٍ آخرٍ مماثلٍ عن "مغازلة الجماهير". أما الحزبُ الوطني فكانَ على خلافِ حزبِ الأمةِ يتسمُ بطابعٍ ثوريّ وتقوده قيادةٌ تعملُ أساساً بالحماسةِ و الخطبِ الرنانةِ و الشعاراتِ الكبيرةِ و"مغازلةِ الجماهيرِ" .

وبطبيعةِ الأمورِ في مجتمعٍ حديثِ العهدِ بالتعليم وذي حصةٍ واسعةٍ من الأمية ، كانت "شعبيةُ الحزبِ الوطني" أكبرُ بكثيٍر مِن "شعبيةِ حزبِ الأمة" .

ويمكن الآن (بعد مرور قرابة قرن كامل من الزمان) أن نقول بأن تيار " الحماسة" و"مغازلة الجماهير" هو الذي قُيّضَ لهُ أن يستمرَ "تحت مسمياتٍ مختلفةٍ" طيلة سني القرنِ العشرين . أما تيارُ "الإصلاحِ والتعقلِ والبعدِ عن الحماسةِ غيرِ المحسوبةِ" فقد استمر عدةَ سنواتٍ تحتَ اسم "حزب الأحرارِ الدستوريين" ثم بقيامِ حركةِ الجيشِ في يوليو 1952 وُضعت النهاية لهذا التيارِ . كذلكَ يمكنُ القول أن الحزبَ الوطني لم يستمر فقط تحتَ هذا المسمى ، وانما استمرت توجهاتُه وشعاراتُه وروحُه تحتَ أسماءٍ أُخرى مثل "مصرَ الفتاة" و "الحزب الاشتراكي" كما أنه في مراحلٍ أخرى اشترك مع الضباط الأحرار في قيادةِ الحياةِ العامةِ في مصرَ كما أنه في مرحلةٍ تالية اشترك مع تيارِ الإسلام السياسي في العمل السياسي و الإعلامي .

أما "تيارُ حزبِ الأمةِ" فأنه –كما أسلفت- قد بلغ نهايته مع نجاحِ الضباطِ الأحرارِ في الاستيلاءِ على السلطةِ في مصرَ منذ 48 سنة . وعندما سمحت الحياةُ السياسيةُ في مصرَ بالعودةِ (النسبيةِ) للتعدديةِ السياسيةِ ، فانَ تياراتٍ عديدةٍ من القياداتِ القديمةِ ظهرت على السطحِ بينما لم يكن من بينها التيارُ الذي وُجد ذات يومٍ تحت اسم "حزب الأمة" كما وُجد في سنوات لاحقة تحتَ اسم "حزب الأحرار الدستوريين" . ويرجع السبب في اعتقادي لحقيقة أن بُعداً أساسياً من أبعادِ الحركةِ السياسيةِ للحزبِ الوطني وهو (الإرهاب الفكري لخصومه) كان قد أصبحَ بُعداً أساسياً في الحياةِ العامةِ السياسيةِ في مصرَ بعد تدعيمٍ متواصلٍ من الحزبِ الوطني ومصر الفتاة والحزب الاشتراكي وتيار الإسلام السياسي وحركةِ الضباطِ الأحرار . فكل هؤلاء دعَموا فكرة الانفصال بين (تيار الإصلاح المتدرج والمتعقل) و(الوطنية) بمعنى انهُ أصبحَ من شِبه المُسلمات أنَ الوطنيةَ تعنى "الحماسةُ و التوجُه الصِدامى والخطبُ الرنانةُ والشعاراتُ الكبيرةُ" وأنَ الحديثَ بلغةٍ تُشبِهُ حديثَ حزبِ الأمة وكتابات أحمد لطفي السيد في مستهلِ هذا القرن هي من "أعراض عدم الوطنية" ومن ملامح "عدم الكرامة" .

والحقيقة ، أننا عندما نتأمل اليوم فكرَ و كتاباتِ حزبِ الأمة بوجهٍ عام وفكرَ وكتاباتِ أحمد لطفي السيد بوجهٍ خاصٍ لا نملك إلا التَحسُر على أنَ هذا التيار لم يُقَيّضَ له النمو في الواقعِ المِصري ، ولا نملكُ إلا الشعورَ بالمرارةِ لأنهُ لو كانت الظروف قد سمحت لهذا التيار بالنمو وقيادةِ الحياةِ العامةِ في مصر لكُنَا اليوم في وضعٍ أفضل على كلِ المستويات . كذلك فإننا عندما نتأملُ اليومَ حصادَ التيارِ الآخر (تيار الحماسة) فإننا لا نجدُ (بعد استبعاد الكلام الكبير والصيغ الرنانة) إلا أفدح الخسائر .

ونتساءل : لماذا عادت كلُ القوى السياسية لمسرحِ الأحداثِ في مصرَ مع السماحِ بالتعدديةِ باستثناءِ تيارٍ واحدٍ لم يعد ولا يوجد حتى هذه اللحظة من يمثله إلا أفرادٌ قليلون يعملونَ ويكتبونَ ويحاضرونَ بجهودٍ فرديةٍ غيَر منظمة وسط ضجيجٍ مهولٍ تُحدِثهُ دقاتُ طبولِ التيارِ الآخر والذي لم يعط الواقعَ المِصري(باستثناءِ دقاتِ الطبولِ) غيرَ قائمةٍ طويلةٍ منَ الإخفاقِ والفشلِ . كذلكَ فإننا نتساءل : ما هي الوسيلة التي بوسعها تجميع أنصار هذا التيار (المماثل لتيار حزب الأمة في مستهل القرن العشــرين) في كيانٍ حيويٍ يعــملُ على تفـعيلِ أفكارِ "الإصلاح" و"التطور التدريجي المتواصل" و"التحديث" والتعامل مع كل المعضلات تعاملاً عقلانياً لا يقوم على أرضية "الحماس" و "الانفعال" والمبالغة (الهستيرية) في اعتبارات الكرامة وإنما يقوم على تحقيقِ المصالِح برويةٍ والتواصلِ مع العالم واستئصالِ بذورِ "ثقافة الكلام الكبير" من عقول الكثيرينَ من أبناءِ و بناتِ هذا الوطن وتأسيسِ "علاقةٍ سلميةٍ" مع "مسيرةِ العلم الحديث" و"ركب التمدن المعاصر" والتخلي عن بعض عناصر تفكير البعض منَا والمستمدة من "الإطارِ القبلي" قبل أي شئ آخر ... ما هي الوسيلة لتجميع رواد هذا التيار في كيانٍ شرعيٍّ منظمٍ يدعوا للعقلانيةِ والتوسط والصلح مع الذات والتاريخ والآخر واللحاقِ بركبِ الحداثةِ والعلمِ والتقدمِ؟؟؟ هذا هو السؤال الذي يبحث عن إجابةٍ هامةٍ وضروريةٍ وملحةٍ.
(أخبار اليوم 22/1/2000) .