الثقافـة .. أولاً وأخيـراً .


لا ريب أن عدةَ دولٍ من دولِ العالمِ الثالث تملك كوادراً بشريةً مثقفةً بشكلٍ ممتازٍ وثري ؛ ولكن المشكلة تكمنُ في أن السوادَ الأعظم من هؤلاء من الذين احترفوا الثقافة أي جعلوها مهنتهم . فهم إلى جانبِ كونهم مثقفين فإنهم يعملون أيضاً بالثقافة . أما خارج دائرةِ هذا الكادر البشري المثقف وأعني دائرة المثقفين ، فإن وجودَ كوادرٍ بشريةٍ مثقفةٍ في هذه الدول يكاد يكون أمراً نادراً . وتعني هذه الملاحظة ، أن دول العالم الثالث لديها "أهل فكر" من بين أفراد دائرة المثقفين ، ولديها أيضاً "أهل فعل" خارج دائـرة المثقفين ، والسواد الأعظم من هؤلاء لم تدخل الثقافةُ الثريةُ في تكوينهم . وهو ما يعني أنه باستثناء "أهل دائرة الثقافة" فإن أهلَ الفعلِ في هذه المجتمعاتِ في عشراتِ الميادين والمجالاتِ العملية والعلمية والصناعية والاقتصادية والخدمية لم تكن الثقافةُ من بين مكوناتهم الأساسية .

وقد دلتني تجربةُ التعامل الوثيق مع الحضارة الغربية للتعرف على الصورةِ المعاكسةِ والموجودةِ في البلدان الأكثر تقدماً في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وبعض بلدان شرق آسيا. ففي هذه البلدان يرى الإنسانُ ويلمس وجودَ المكوّن الثقافي خارج دائرة المثقفين الضيقة ، بل ويجد ثراءً ثقافياً مذهلاً عند قياداتِ معظم الميادين والمجالات التي ذكرتها (وأعني المجالات العملية والعلمية والصناعية والاقتصادية والخدمية). فالعلمُ الواسعُ بالتاريخِ والآدابِ وعشراتِ المجالاتِ الثقافيةِ والفنية وأيضاً عشرات المجالات التي تنضوي تحت مسمى العلوم الاجتماعية – هذا العلم الواسع متوفرٌ ليس فقط لأهلِ دائرةِ المثقفين الضيقة بطبيعتها (لاشتمالها على الصفوة من الناحية العقلية) وإنما هو أمرٌ متوفرٌ وبثراءٍ وغزارةٍ عند العناصرِ البشريةِ القياديةِ في سائر المجالات الأخرى التي ذكرتها .

فما أكثر الذين قابلتهم وتعاملت معهم من كبارِ الرؤساءِ التنفيذيينِ في مؤسساتٍ اقتصاديةٍ وصناعيةٍ كبرى وكانوا في نفس الوقت من القمم الشاهقة في مجالاتٍ عديدةٍ من مجالاتِ الفكر والفن . ولا تزال ذكرى أحد هؤلاء ماثلة في مخيلتي ، إذ كان رئيساً لواحدة من اكبر شركات البترول العالمية وكان في نفس الوقت أحدَ أكثر الناسِ في العالم معرفةً بتاريخ تركيا بوجهٍ عام وبتاريخها البيزنطي بوجهٍ خاص . وما أروع الكتاب الذي صدر له عن الآثار البيزنطية في تركيا . وتزال ذكرى آخر غيره ماثلة في ذهني ، وهو الذي كان من علماء الجيولوجيا في شركة متعددة الجنسيات وفي نفس الوقت أكثر معرفةً بفنون الأوبرا والموسيقي السيمفونية من بعض أساتذة هذه المجالات الجامعيين الذين وهبوا حياتهم لهذا المجال . وإذا كان لابد من ضرب مثال ثالث (لمئات الحالات التي خبرتها بنفسي) فاذكر صديقاً هولندياً كان يعمل في وزارة الخارجية الهولندية ومسئول عن العلاقات الاقتصادية الهولندية بالعالم الخارجي ، ومع ذلك فهو يعرف عن الشعر العربي بوجهٍ عام وشعر أبى العلاء المعري بوجهٍ خاص ما لا يخطر علي بال أحد في واقعنا .. ولا زلت اذكر إهتماته بكتابٍ عن قلاع وأماكن حلب في شعر المعري !!

ولا أبالغ إذ أقول أنني لم ألتقْ برجلٍ كبيرٍ في أي موقعٍ اقتصادي أو صناعي في عشراتِ المؤسساتِ العالمية الكبرى الإَّ ووجدت عنده من العمقِِ والإتساع الثقافي ما لا مثيل له علي الإطلاق في واقعِ معظم دول العالم الثالث التي ترنو للالتحاق بركبِ التقدمِ والتمدنِ ، ويظن بعضُ أبناءها (خطأً) أن ذلك سيحدث عن طريق الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي فحسب .

ولطالما أذهلني الفارق بين الجانبين: الجانب الذي يظن أن الثقافةَ مهنةٌ للبعضِ (ويسمى هذا البعض بالمثقفين) بينما لا تعد الثقافة مكوناً أساسياً للآخرين خارج هذه الدائرة الضيقة ، والجانب الذي يتسم القياديون في كل مجالاتِ الحياة فيه بالتكوين الثقافي الخصب والثري والعريض . ولطالما ربطت بين هذه الظاهرة وبين العديدِ من الظواهر الأخرى:

فمن جهةٍ ربطت بين هذه الظاهرة ودرجة نمو الحياة الديموقراطية. ومن جهةٍ ثانية ربطت بين هذه الظاهرة ودرجة التقدم المحرز في العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانيات بما في ذلك سائر مجالات الإبداع المختلفة .

ومن جهةٍ ثالثة ربطت بين هذه الظاهرة والسلام الاجتماعي . ومن جهةٍ رابعة ربطت بين هذه الظاهرة ومدى قدرة كل مجتمع على التواصل مع العالم خارج حدوده – وأعني بالتواصـل هنا كل أشـكال التواصل (سـياسياً واقتصادياً وعلمياً وفكرياً وإبداعياً .. . الخ) .

وإذا كانت كلُ مسألةٍ من هذه المسائل الهامة تستحق بعضَ الإيضاح ، فإنني أَفعلُ ذلك بإيجاز وليتناسب ذلك مع حجم وطبيعة هذا المقال ، على أن أعود إليه مستقبلاً بشكلٍ أكثر إسهاباً : فمن جهةٍ ، فإن أي طموح لتوسيع الهامش الديموقراطي في دولِ العالم الثالث التي تعرف بعض هذا الهامش سوف يبقى مستحيلاً ما لم تخرج الثقافةُ من دائرةِ المثقفين الضيقة وتنتشر في سائر دوائر المجتمع بوجهٍ عام ولدى العناصر القيادية في كلِ مجالٍ من مجالاتِ الحياة بوجهٍ خاص . وسيكون ذلك الانتشار مستحيلاً ما لم تحدث ثورةٌ في المؤسسةِ التعليميةِ تبذر في نفوسِ وعقولِ وضمائرِ أبناءِ وبناتِ هذه الأمة حبَ وتقديرَ وتقديسَ الثقافةِ والمعرفةِ وإكبارِ الأعلامِ أصحاب القامات السامقة في كل مجالات الفكر والفن والإبداع . فما لم يحدث ذلك بجهدٍ جهيد من المؤسسة التعليمية وبمساعدة واعية قوية ومخلصة من المؤسسة الإعلامية ، فإن الثقافة لن ترقى للمقامِ الذي تستحقه بين أولويات المجتمع وطرائق حكمه على أبناءه بوجهٍ عام وعلى العاملين في الحياةِ العامةِ بوجهٍ خاص . وحدوث ذلك هو العنصر الأول والأكبر القادر على تعميق وتوسيع الهامش الديموقراطي . فالديموقراطية باختـصارٍ شديدٍ عملية اختيار بين بدائل ، وهو اختيار لا معنى له في غيبة الوعي والمعرفة والثقافة العامة القوية والمنتشرة .

ومن جهةٍ ثانية ، فإن معظم دول العالم الثالث الطامحة لمكانة أفضل تحت الشمس ستبقى في مجالات العلوم التطبيقيةِ والاجتماعية والإنسانية وسائر مجالات الإبداع عالةً على العالم المتقدم (مع وجود استثناءات قليلة تثبت القاعدة ولا تنفيها) ما لم يحدث توسيع شديد في دوائر انتشار الثقافة ، فالمناخ الثقافي العام الخصب والثري هو المناخ الوحيد الذي يسمح بتفتق المواهب والقدرات في مجالات العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانيات . وكل متتبع لتاريخ الحضاراتِ يعي بوضوحٍ أن "المناخ الثقافي والفكري العام" كان دائماً هو المطبخ الذي أفرز الطفرات في سائر المجالات المذكورة (من علم تطبيقي إلى علوم اجتماعية إلى إنسانيات).

ومن جهةٍ ثالثة ، فإن السلامَ الاجتماعي وهو أهم ما تنشده دولُ العالمِ الثالثِ الطامحة للتقدم والاستقرار والازدهار لا يمكن تصور حدوثه إلاِّ في ظل مناخٍ ثقافي عام خصب وثري . بل أن انعدام هذا المناخ يكون هو المفرخة المثلى لأفكارِ وتوجهاتِ المخاصمين للعصرِ والمهاجرين للماضي (لا عن اقتناع بل عن عجزٍ عن التعاملِ مع العصرِ بأدواته) . ولا أزال أكرر ما ذكرته عشرات المرات في محاضرات عديدة من أنه من المستحيل وجود شخص تكوّن ثقافياً بشكلٍ جيدٍ ورحبٍ ونال من ثقافاتِ المدنياتِ المختلفة أنصـبةً معقولة ثم يكون أصولياً أو متعصـباً أو مخاصماً لمسيرة التمدن الإنساني بأيّ شـكلٍ من الأشكال .

ومن جهةٍ رابعة وأخيرة ، فإن العالمَ الثالث يقفُ في عصبيةٍ بالغةٍ وتوترٍ شديدٍ أمام ظواهر جديدة مثل العولمة وانفتاح الحدود بين الدول مادياً ومعنوياً بشكلٍ غير مسبوق وخضوع الجميع لقواعد لعبة جديدة تقول أن التعامل مع الآخرين هو أمرٌ حتمي لا يجوز الهروب منه ، ويقف العالمُ الثالث أمام كل ذلك وهو في حالةٍ عصبيةٍ واضحةٍ وتوترٍ شديدٍ دون أن يدرك أن الصعوبةَ الوحيدة التي يواجهها هي عدم القدرة علي التواصل مع العالم خارج حـدوده (وأعني كل أشـكال التواصل) بسبب فقـر المناخ الثـقافـي العام ، إذ أن مناخاً ثقافياً عاماً داخلياً قوياً وثرياً قادرٌ علي إحداثِ هذا التواصل (الذي لا مهرب منه) وقادرٌ أيضاً علي الحفاظِ علي مكوناتٍ ثقافيةٍ خاصةٍ (خصوصيات ثقافية) لا يمكن حمايتها بالتقوقع والانغلاق علي الذات وإنما يمكن حمايتها (كما حدث في اليابان) بإثراءِ المناخ الثقافي العام الداخلي بما يسمح بالأمرين في آن واحـد : التواصل الحتمي مع الآخرين وحماية الخصوصيات الثقافية .

وخلاصة القول ، أن العملَ الدؤوب والمخلص والمنطلق من رؤيةٍ استراتيجيةٍ واضحة بهدف إثراء المناخ الثقافي العام والعمل على جعل الثقافة أحد أهم عناصر الشخصية الوطنية بوجهٍ عامٍ واحد أهم عناصر الشخصيات العامة في المجتمع بوجهٍ خاصٍ هو جسرُ الخلاصِ الوحيدِ من هزيمةٍ حضاريةٍ مؤكدة إذا بقت دولُ العالم الثالث مصرةً على أن الثقافة هي مهنةُ البعضِ كما أن العمل في الضرائب والجمارك والشـرطة هي مهن البعض الآخر وليـس هم الجميع بدون اسـتثناء .
(الأهرام 7/11/1999) .