مرةً أخرى: أين لطفي السيد عصرنا؟


في 15 يناير 1872 ولد أحمد لطفي السيد الذي درج كبار التنويريين وأعظم المثقفين المصريين (ومن بينهم رجال كبار مثل طه حسين والعقاد) على تسميته بأستاذ الجيل وقد تخرج من كلية الحقوق مع مصطفى كامل وإسماعيل صدقي وإسماعيل الحكيم سنة 1894. أمضى بعد فترة عمل قصيرة كوكيل نيابة ثم سافر إلى أوروبا وأقام في جنيف عدة سنوات درس خلالها الفلسفة والآداب دراسة حرة بجامعة جنيف. وستظهر كتاباته في السنوات التالية أنه كوّن نفسه ثقافياً خلال تلك الفترة تكويناً ثرياً للغاية وعلى أساس من تقديس الأصول الإغريقية/الرومانية للفكر والقانون بلا حد (وقد إقتفى طه حسين أثره في ذلك) وكان لا يؤمن بأي معنى لكلمة الأمة إلا (الأمة المصرية). فقد كتب ذات يوم في الجريدة يقول: (أن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية (نريد الوطن المصري) والإحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والإنجليزي على قوميته لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية). لقد صدرت "الجريدة" التي أسسها أحمد لطفي السيد يوم 9 مارس 1907 وإستمرت في الصدور سنوات وكان آخر عدد لها يوم 20 سبتمبر 1914.

في أول أعداد الجريدة يقول لطفي السيد ما يود كل مصري ينشد تقدم مصر أن يكتبه اليوم ويوقعه بإسمه.. (ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الإعتدال الصريح ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقي الصحيح والحض على الأخذ بها وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى. تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة أساسها حسن الظن من غير تعرض للموظفين والأفراد في أشخاصهم وأعمالهم التي لا مساس لها بجسم الكل الذي لا ينقسم وهو الأمة).

ومن الأمور التي سيجد القارئ أن من المتعة مطالعتها ما كتبه لطفي السيد سنة 1907 رداً على التقرير الذي كتبه اللورد كرومر إثر إستقالته تحدث فيه بشكل سلبي للغاية عن طبيعة المصريين وأخلاقهم وأفكارهم… وقد جاء رد لطفي السيد أعلى من مستواه الفكري (بمراحل) من تقرير اللورد كرومر (وفي ظني أنني أخسف الأرض بلطفي السيد عندما أقارن عقله بعقل اللورد كرومر-فهذا الأخير موظف في الغالب لا يقدر على مطالعة كتابات أرسطو التي ترجمها لطفي السيد إلى العربية). كذلك فإنها متعة عقلية رائعة أن يطالع الإنسان ما كتبه لطفي السيد منذ أقل قليلاً من مائة سنة عن نفس تهمة التعصب الديني عن المصريين.

وبعد تسعة شهور من صدور "الجريدة" ألف لطفي السيد حزب الأمة (في 21 ديسمبر 1907). وفي سنة 1910 وضع حزب الأمة مشروعاً للدستور. ويمكن القول أن حزب الأمة ضم الكثير ممن صاروا بعد ذلك زعماء أكبر أحزاب الأغلبية (الوفد) والكثير ممن صاروا زعماء أكبر أحزاب المعارضة (الأحرار الدستوريين). وفي ظني أن قاسم أمين كان في عقله وتفكيره وآرائه الأقرب من بين نجوم هذه الفترة لعقل وفكر وآراء لطفي السيد.

ومن الطريف (وأمامي الآن عشرات المطبوعات والمجلدات التي تتصل بأحمد لطفي السيد) أن أقتبس ما كتبه عن فكرة القومية العربية: (في نحو سنة 1911 ظهرت لأول مرة بوادر ما يسمونه البان آرابيزم) ولطفي السيد هنا ليس لديه كلمة عربية عوضاً عن Pan Arabism. وكتعليقه يومئذ (في 1911) (أن المصري هو الذي لا يعرف له وطناً أخر غير مصر).

وليتأمل القارئ معي عظمة لطفي السيد وهو يقول: (في أوائل سنة 1914 طلب إلى سعيد باشا وسعد زغلول باشا أن أطلب مقابلة الخديو لأنه يرغب في لقائي… فقلت لهما: "إذا كان الخديو يريد أن يتفضل بلقائي فليدعوني هو إلى ذلك"). وقد حدث أن طلب الخديو من لطفي السيد أن يقابله. ويقول لطفي السيد أن الخديو قال له في نهاية اللقاء (قد عرفت الطريق… فتعال عندي كل يوم سبت).. فرد لطفي السيد قائلاً (يا مولاي ما شأن الكاتب والإتصال بالسلطات).. فقال الخديو (إذن أنت لا تريد أن تأتي عندي) فال لطفي السيد (أجيء يا مولاي كلما دُعيت).

وفي العشرينيات يترجم لطفي السيد (كتاب الأخلاق) ثم (كتاب السياسة) لأرسطو إيماناً منه أن البشرية لم تعرف رجلاً رفع من قدر العقل كما فعل أرسطو (وإن كنت أضيف أن إبن رشد قد فعل ذات الشيء-وإن كان السبق وإن كانت الريادة لأرسطو بلا شك).

شارك لطفي السيد في ثورة 1919… ثم إنسحب من الوفد إذ كان (عقلياً وثقافياً) أقرب للأحرار الدستوريين. وعندما إنتهت المرحلة الأولى من حياة الجامعة (الجامعة الأهلية). وأصبحت تحت إشراف الحكومة منذ سنة 1925 بإسم "الجامعة المصرية" (حتى تغيّر إسمها سنة 1936 لجامعة فؤاد الأول) أصبح لطفي السيد أول رئيس للجامعة المصرية. وقد تولى لطفي السيد مناصب وزارية عديدة خلال السنوات العشرين السابقة على يوليو 1952-ولكن ذلك شيء لا أهمية له بالنسبة لرجل مثل لطفي السيد كان عملاقاً مثل طه حسين ينظر إليه كأستاذ له ولجيله.

كانت للطفي السيد آراء جلبت عليه هجوماً شديداً مثل إيمانه بأن التعليم أهم من الإستقلال. وعدم تحمسه لفكرة (الأمة الإسلامية) لتعارضها مع فهمه الوحيد للأمة بمعنى (الأمة المصرية)..

وعندما أُسس مجمع اللغة العربية كان أول رئيس له حتى وفاته سنة 1963 (عن واحد وتسعين سنة). ولكنه لم يؤمن أبداً بوجود شيء إسمه القومية العربية (البان آرابيزم-حسب كلمته).

وإذا كان من المستحيل تقديم صورة وافية لحياة أستاذ الجيل "أحمد لطفي السيد" في عمود كهذا… وإذا كانت هذه هي مهمة آخرين (أي المؤرخين المحترفين)… إلا أنها مهمة مفكر مثلي درس حياة وأفكار وكتابات وترجمات لطفي السيد أن يدعو المؤرخين ليرووا للأجيال الشابة اليوم في مصر كيف هوجم رجل هو من أصحاب أعظم العقول في تاريخنا الحديث بسبب آراء على المؤرخين أن يعرضوها لقراء اليوم وسيكتشف هؤلاء بأنفسهم أنه كان الأصوب رأياً والأرشد حكماً… ولكنه كان مثل كل الذين كوَّنوا محصولهم المعرفي بثراء كبير من السهل تقليب العامة عليهم… ويكفي أن يعرض على القراء مؤرخ منصف مثل الدكتور يونان قصة سقوط أحمد لطفي السيد في إنتخابات أول برلمان مصري (1924) بسبب أن منافسه (نصف متعلم) كان يقرأ على مسامع الجمهور صفحات من كتاب السياسة لأرسطو (ترجمة لطفي السيد) ليثبت لهم أن خصمه (لطفي السيد) رجل غير سوي العقل (!!!).

وآه لو أنصف أصحاب العقول (الحناجر؟!) في لحظات عديدة من تاريخنا لرجال غير أسوياء العقل (بحسب القصة الأخيرة)… آه لو أنهم سمعوا وفهموا وعطلوا "حناجرهم" قليلاً وأتاحوا الفرصة لأفكار رجال غير أسوياء العقل مثل أحمد لطفي السيد لتوجيه السفينة… أغلب الظن أننا كنا سنبلغ شاطئ الأمان ولا نكون (منذ عقود) كسفينة خشبية صغيرة ذات قلع تعصف بها الرياح والأنواء.