دعوة للمؤرخين للتفسير.


صدر الدستور المصري العريق في سنة 1923. وعقب ذلك أجرت الوزارة القائمة (وزارة "يحيى إبراهيم" التي جاءت للحكم يوم 15 مارس 1923) الإنتخابات البرلمانية. وقد سقط في هذه الإنتخابات كثيرون من بينهم رئيس الحكومة التي أجرت الإنتخابات. بل أن الرجل الذي سقط لم يكن فقط رئيس مجلس الوزراء بل كان أيضاً وزير الداخلية التي أشرفت على الإنتخابات. وبتاريخ 17 يناير 1924 قدم رئيس الوزراء ووزير الداخلية (يحيى إبراهيم) كتاب إستقالة وزارته للملك فؤاد-وفي نفس كتاب الإستقالة إشارة واضحة للإنتخابات التي أجراها (على مبدأ الحياد التام) "حسب كلماته". وكان الملك فؤاد غير مرتاح لنتائج الإنتخابات التي إكتسحها سعد زغلول وحزبه (الوفد). وظهرت معالم عدم الرضى الملكي (!) في تأخر الملك فؤاد عشرة أيام قبل أن يقبل إستقالة الوزارة (في 27 يناير 1924). لكن أقوى مظاهر عدم الرضى فقد تمثلت في الأمر الملكي الصادر يوم 28 يناير 1924 لسعد زغلول حيث تجاهل الملك فؤاد أنه يكلف سعد زغلول بتأليف الوزارة لأن سعد (وحزبه) فازا في الإنتخابات… بل وتجاهل الملك موضوع الإنتخابات كلية وأراد أن يظهر الأمر على أساس إتجاه إرادته المحضة لإختيار سعد زغلول لتأليف الحكومة. قال الملك (الذي تجاهل الإنتخابات ونتيجتها) (إقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة لعهدكم-وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف هيئة الوزارة) (!!). فهل يقبل سعد زغلول الذي أرهق الإنجليز أشد الإرهاق من نوفمبر 1918 وحتى عودته من المنفى في سبتمبر 1923-هل يقبل سعد هذا الموقف المتعالي (على الحقائق والدستور ونتائج الإنتخابات) من جهة الملك؟.. إن مطالعة "جواب حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا" يوم 28 يناير على الأمر الملكي الصادر قبل ساعات من نفس اليوم، تدلنا أن سعداً لم يغفل ذلك التجاهل من طرف الملك. لقد بدأ سعد جوابه بأن ذكر الملك أنه إنما إختاره نزولاً على إرادة الأمة التي عبرت عنها نتائج الإنتخابات. قال سعد في مستهل جوابه: (إن الرعاية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب عليّ والبلاد داخلة في نظام نيابي يقضي بإحترام إرادتها وإرتكاز حكومتها على ثقة وكلائها ألاَّ أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى). وعندما وقع حادث إغتيال السردار البريطاني (سير لي ستاك) وطلبت بريطانيا من حكومة سعد زغلول قبول طلبات وجدها سعد غير معقولة-لم يتردد سعد زغلول في أن يقدم للملك (يوم 23 نوفمبر 1924) إستقالته وإستقالة وزارته.

ما الذي يجعلني أكتب هذه الكلمات اليوم؟.. المناسبة: أنها حدثت في سنة 1924 أي منذ ثمانين سنة… وكانت بالتالي (هذه السنة) هي بداية حياتنا النيابية الحقيقية وعلى أسس دستورية معاصرة على قدم المساواة مع الأسس الدستورية في أي بلد راق متقدم. ومع ذلك، فإن هناك آراء عدة في عملية تقييم تجربتنا النيابية التي بدأت عندما كانت كل دول المنطقة بعيدة كل البعد عن درجة التطور التي بلغتها مصر. فالبعض يرى أن سعد زغلول كان على صواب مطلق في كل ما إتخذه من خطوات وقرارات ومواقف… والبعض يرى أن سعد زغلول سار بسرعة أكبر مما كان ينبغي عليه أن يفعل مع إتهامه بغير قليل من الديماجوجية… ويقول هؤلاء: إن الذي جعل أتباعه ذات يوم يقولون أن الإحتلال على يد سعد خيرٌ من الإستقلال على يد عدلي… إنما سار بعد وصوله للحكم على نفس الوتيرة الديماجوجية والبعض يرى أن سعد كان على حق بشكل نسبي إلا أن "القصر" و"الإنجليز" و"أحزاب الأقلية" هم الذين يجب أن يلاموا على وضع تجربتنا النيابية / الليبرالية من البداية على درب لم يؤد لنموها وتطرها وإستتباب أمرها… والبعض يرى أن في مواجهة ديماجوجية الوفد فإن أحزاب المعارضة وبالذات الأحرار الدستوريين كانوا أقرب للحديث والتحرك بناء على حسابات القوى الحقيقية وليس الشعارات التي لا تستند على عناصر قوة حقيقية..

وأنا شخصياً راجعت (بشكل كبير) إعجابي العارم بالوفد وعدم تقديري لأعلام الأحرار الدستوريين… وعندما فعلت ذلك وجدت أن الجانبين كانا يتوخيا مصلحة مصر… ولكن المؤكد أن الوفد كان بحاجة لقدر من تعقل الأحرار الدستوريين وثراء عقولهم وتفكيرهم. كما أن الأحرار الدستوريين كان ينبغي أن يقدّروا عواقب إجهاض التجربة الليبرالية (وقد ساهموا بنسبة ما في ذلك)… ولعل "الأحرار الدستوريين" هم من أكثر الذين خسروا من عدم نمو التجربة النيابية الليبرالية بالشكل الطبيعي-إذ أن عاقبة ذلك جاءت بأشياء منها إختفاؤهم هم بالكلية من مسرح الحياة السياسية في مصر.

وفي النهاية-فإنني إنسان يُفضل إثارة الأسئلة ودعوة الآخرين (وفي هذه المسألة بالذات "المؤرخين") ليدلوا بدلوهم في الأمر ولا يحتكر هو الإجابة-عملاً بمقولة صديق عزيز عليه يكرر دائماً "أن الأسئلة مبصرة والأجوبة عمياء".