موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية
تحيةً لعملٍ عظيمٍ.


منذ سنوات طالعت موْسوعة وضعها أستاذ مصري عن اليهود واليهودية. وقد وجدتها (سواء في طبعتها الأولى أو طبعاتها التالية في أجزاء كثيرة) كثيرة المخالفة لقواعد البحث العلمي وذات إرتباكات منهجية لا تحصى… وإذا قارنت هذه الموسوعة (مثلاً) بكتابات زالمان شازار عن "نقد العهد القديم" أو "نقد الكتاب المقدس" التي نشرت في ألمانيا منذ ثمانين سنة-فإن كتابات زالمان شازار أرقى بكثير من ناحية المنهج والتجرد عن الهوى الظاهر في الموسوعة التي أشير هنا لها. وقد طالعت في حياتي مئات الكتب عن العبرانيين وتاريخهم والكتاب المقدس وركزت كثيراً على الدراسات التي وضعت عن المصدر الإلوهيمي والمصدر اليهوُوُي لأسفار ما يعرف بالعهد القديم. وجل ما طالعته ونال إعجابي وتقديري كان من أعمال دارسين أوروبيين بإستثناء الدراسات المتعلقة بلفائف البحر الميت (وما كتب عنها بالعربية كان ولا يزال متسماً بسطحية واضحة وكثير من السذاجة) فمعظم هذه الدراسات كانت لأساتذة أمريكيين. وقد إمتدت إهتماماتي لتغطي تاريخ اليهود خلال القرون الثلاثة الأخيرة وبالذات تاريخهم منذ حادثة دريفوس وصدور كتاب هيرتزل (1896) ومؤتمر بازل (1897) ثم تفاصيل ما جرى خلال السنوات الخمسين من 1897 إلى 1947 (تاريخ صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين). كذلك كانت الدراسات التي تتناول إسرائيل منذ 1948 بشتى جوانبها فكانت محل ولعي منذ سنة 1966 والفضل يعود للأستاذ أحمد بهاء الدين ولكتابه (إسرائيليات)-فرغم بساطته فقد شحذ في نفسي الرغبة في أن أعرف (أقصى ما يمكن) عن إسرائيل من سائر الجوانب بما في ذلك الجوانب الأدبية منذ عرفت في سنة 1966 أن جائزة نوبل للآداب (في تلك السنة) ذهبت للشاعر الإسرائيلي "عجنون".

وأنا أميل للمطالعة في هذه المجالات بالإنجليزية لكوني إنساناً لا يطيق مزج "الهوى" و"العواطف" بالعلم والدراسة والفكر-وهو ما يحدث في جل الكتابات العربية عن اليهود واليهودية وإسرائيل-حتى عندما يجيء من أساتذة متخصصين-فإن حيادهم العلمي يكون غائباً أو شبه غائب.

ومنذ أيام طالعت (بشغف لم اشعر بمثله منذ شهور) العمل الممتاز للدكتور رشاد الشامي والذي صدر في 368 صفحة بعنوان (موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية) وهو عمل رائع يضاهي (في كونه عملاً أكاديمياً رصيناً) أي عمل عالمي من كبريات الأعمال في هذا المجال. إن هذا العمل الجديد الفذ يطابق كبريات الأعمال العالمية لأساتذة أكاديميين لا يتسلل الهوى لما يكتبون. وأعتقد أننا بحاجة لعشرات الأعمال من تلك النوعية العميقة والقيمة والمطابقة لحذافير البحث العلمي وفقد منهجية سليمة. نحن بحاجة لذلك (ولأشياء أخرى عديدة) إذا كنا نريد أن نتعامل مع إسرائيل بشكل يناسب العصر ويرقى لمستوى التحدي. فإن جل ما يكتب في صحفنا وكتبنا عن هذا الأمر هو "سطحي" و"أرعن" و"مفعم بالعاطفة الهوجاء" و"لا جدوى منه" ومن أقوى آثاره خسراننا أي تعاطف دولي ناهيك عن كونه –ببساطة ووضوح-لا يُفيد إلا إسرائيل. إنني أدعو هواة القراءة الجادة في مصر لمطالعة كتاب الدكتور رشاد الشامي ولا أظن إلاَّ أنهم سيوافقونني بعد ذلك أننا في أمس الحاجة لمائة كتاب من هذه النوعية عن الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية في إسرائيل… عن أحزابها… وهيئاتها السياسية… وصحفها… وجامعاتها… وأدبها… وإنتشار أبناءها في كبريات جامعات العالم وابرز مراكز البحوث على وجه الأرض. نحن بحاجة لذلك أكثر من حاجتنا لإستمرارنا في التصايح بشكل جعلنا نخسر معظم العالم: نخسر إستماعه لنا ناهيك عن تعاطفه أو مساندته أو حتى إحترامه لهذا التصايح.

إنني أؤمن أننا (ثقافياً) مصابون بدائين وبيلين: إننا خارج الزمن… وإننا خارج حقائق العصر… ولا أظن أنه بوسع شيء أن يساعدنا على البرء من هذين السقمين مثل أعمال جادة ورصينة ككتاب (موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية) للدكتور رشاد الشامي الذي طالعت كتابه مرتين في أسبوع واحد من فرط تقديري لكافة جوانب تميزه وثراءه.

إن أكبر دليل على صواب زعمي أننا في أمور عديدة بوجه عام وفيما يتعلق بالتحدي الإسرائيلي بوجه خاص "خارج الحقيقة" و"خارج الزمن" هو تماثل آراء كتّابٌ كبار وصحفيين بارزين مع آراء أنصاف المتعلمين وأصحاب الحظ الضعيف من المعرفة والثقافة. ومرجع ذلك لأكثر من سبب من بينها خلو حياتنا الفكرية من أعمال عديدة مثل "موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية" ناهيك عن إتسام السواد الأعظم من أبناء وبنات مجتمعنا بعقول ومعرفة محلية في مجملها لأسباب منها فقر المحتوى التعليمي وخوفنا الأسطوري من الآخرين وخرافة غزوهم الثقافي لنا وعدم إمتلاك معظمنا لأدوات تحصيل المعرفة العصرية. التي عندما أستمع لتحليلات من يوصفون بالخبراء الإستراتيجيين أشعر بقلقٍٍ عميق على مستقبلنا: إنهم بسطاء التفكير… بسطاء المحصول المعرفي بشكل يثير الذهول.

وعلى كلٍ: فإن ضبابية الصورة المعرفية في حياتنا غير مطلقة-وإلا ما كان لكتاب مثل (موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية) للدكتور رشاد الشامي أن يصدر.

وتقتضي الأمانة الفكرية أن أسلط الضوء على حقيقة أن معظم حملة الأقلام في واقعنا توجد بينهم وبين تيارات العالم المعاصر جدران سميكة عالية سببها الأول هو عدم تمكنهم من اللغات الأجنبية… وهي كارثة: لقد كان جيل طه حسين والعقاد والمازني وشكري ومحمد حسنين هيكل وسلامة موسى ومحمد عوض محمد ومندور يجيد لغة أجنبية واحدة على الأقل إجادة تامة. أما اليوم، فإن أبرز الأسماء في عالم الكتابة تحتاج لمن يترجم لهم جل ما يطالعونه من أعمال بغير العربية-وهي كارثة ثقافية لأن معظم ما ينبغي قراءته عن العالم اليوم وتياراته غير متوفر بالعربية-ناهيك عن أن عدم إتقان لغة أجنبية يعني أشياءً أخرى لا تخفى عن فطنة أحد.