حـوار .. حول إصـلاح التعليـم .


أثار مقالي المنشور بالأهرام يوم 24 مايو تحت عنوان (التعليم .. وصناعة المستقبل) ردود فعلٍ عديدة بعضها عقلانيٌ صرف والآخر انفعاليٌ يمتطي جواد الدفاع عن النفس والانفعال الشديد ويقومُ (عوضاً عن الحوار) بإلقاء الأحجار . ومن بين ردود الفعل الساخنة والغاضبة والمتوترة ردان نُشـرا بالأهرام بتاريخي 31 مايو و12 يوليو 1999 . ونظراً لأنني غير معنيٌ ولا مهتم بتبادل قذف الأحجار وإنما بتأصيل الحوار بموضوعيةٍ وفي محاولةٍ للبعد عن العيوب الفكرية التي وصفتها في آخر مؤلفاتي ( نقد العقل العربي– مـن عيوب تفكيرنا المعاصر ) فإنني أعلـق هنا علي ما جـاء بردود الفعل هـذه من أفكار وأترك جانباً ما سميته بإلقاء الأحجـار :

أولاً : كرر المعلقون علي مقالي (التعليم وصناعة المستقبل) مرات ومرات أنني أنادي بتعليمٍ متميز للصفوة وأضافوا من عندهم أنني أقصد الصفوة الاجتماعية . وهذا الزعم لم يساورني لحظة لا في مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) ولا في أي كتابٍ من كتبي الأربعة عشر والتي تناولت مشكلة التعليم في مصر وهي كتب صدرت منذ سنة 1978 وطُبعت عدة مرات بالعربية والإنجليزية والفرنسية ولا توجد في كتابٍ واحدٍ منها فقرة تدعو لأن يكون التعليم المتميز للصفوة الاجتماعية . وما دعوت إليه في مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) هو أنه إذا كان من المتعذر البدء بإصلاح كامل وشامل لكل المدارس المصرية فلنبدأ بـ 5% أو 10% من المدارس ولتكن هذه المدارس من ناحيةٍ مراكز للتفوق والتميز ومن ناحيةٍ أخرى تجربة رائدة تدعو للتقليد والتكرار . وأنا هنا أتكلم عن المدارس الحكومية والتميز علي مستوى المدرس والمنهج والبناء المدرسي والتلميذ ولا توجد كلمة واحدة في كتاباتي تتحدث عن التعليم المتميز للصفوة الاجتماعية بل تشهد عشرات المحاضرات التي ألقيتها في مصر والخارج عن التعليم بقولي أن المدارس الخاصة ذات الكلفة العالية والتي يذهب إليها أبناء الصفوة الاجتماعية ليست قادرة علي علاج مشكلة التعليم في مصر لأن هذه المدارس لو كانت جدولاً مائياً صغيراً فإن المدارس الحكومية هي المحيط العارم وإصلاح المحيط هو القادر علي إحداث التغيير وليس التركيز علي الجداول الصغيرة.

ثانياً : كرر الكثيرون ممن علقوا علي مقالي (التعليم وصناعة المستقبل) أنني أدعو لتسخير التعليم لخدمة الاقتصاد وهو تصورٌ آخر خاطئ بشكلٍ مطلق ، فأنا أدعو لأن يكون العلم ولأن تكون الدراسة في خدمة الحياة وليس في خدمة المجتمع الاقتصادي . وقد يحتاج الذين كتبوا بتوترٍ شديد وغضبٍ واضح عن هذه الجزئية بأن أذكرهم بأن الأب الروحي لعلم إدارة الجودة Quality Management وهو البروفيسور Deming قد أعلن منذ اكثر من عشرين سنة أن أي علم أو دراسة أو بحث لا يكون وثيق الصلة بالحياة وبتجويد الحياة وبتحسينها هو من مفردات الماضي المندثر ، فالعلاقة بين العلم والحياة والاقتصاد والسلام الاجتماعي لا تنفصل وليس من العيب أن يكون من أهداف التعليم خدمة الحياة بوجه عام وخدمة الحياة الاقتصادية بوجه خاص .

ثالثاً : زعم البعض بأن مقالي نقل خطوطه العامة من كتاب الدكتور حسين كامل بهاء الدين عن التعليم وغاب عنهم أن خمس مقالات لي قد نُشرت عام 1987 بجريدة الأخبار تحت عنوان (مأساة التعليم والثقافة في مصر) وقد تضمنت هذه المقالات الخمس نفس الفكر الذي لخصه مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) علماً بأن سلسلة مقالات (مأساة التعليم والثقافة في مصر) قد نُشرت بجريدة الأخبار القاهرية اعتبارا من 31/8/1987 أي قبل نحو عشر سنوات من تاريخ صدور كتاب الدكتور حسين كامل بهاء الدين كما أن نفس المقالات الخمس قد تُرجمت ونُشرت بالإنجليزية خارج مصر في عام 1988 . ومع ذلك فإن تقسيم المشكلة التعليمية إلى ثلاث عناصر وهي البرامج التعليمية والمدرس والأبنية التعليمية ليست من ابتكاري كما أنها ليست من ابتكار الدكتور حسين كامل بهاء الدين وانما هي من مسلمات أدبيات التعليم والتربية وجاء ذكرها في عشرات الكتب والمقالات لمفكرين تربويين في عشرات الدول .

رابعاً : ذكر أحد الذين نشروا تعليقاً علي مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) بأنني من هواة الأدب ولست محترفاً . وهو تعبير غريب لأن أحمد أمين صاحب أكبر موسوعة في تاريخ الفكر العربي كان قاضياً شرعياً وكان أحمد شوقي أمير الشعراء محامياً وموظفاً كبيراً بالقصر الخديوي وكان يوسف إدريس طبيباً فما معني أديب محترف ؟ وهل الكتب الأربعة عشر التي أصدرها كاتبِ هذه السطور وعضويته في مجلس إدارة أكثر من عشرين جامعة بجانب عضويته بأحد لجان المجلس الأعلى للثقافة ومجلس إدارة جمعية النهضة بالتعليم لا تسمح له بأن يدلي بدلوه في موضوع التعليم بينما يجوز ذلك لرئيسٍ بإحدى محاكم الاستئناف – والحقيقة أن وصول الحوار لهذا الدرك ضارٌ للغاية بالرأي العام ويزيد من موجات الشخصانية أي عدم الموضوعية في حياتنا العامة .

خامساً : هاجم معظم الذين علقوا علي مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) ما أوردته عن الإغراق في المحلية والبعد عن الكونية وأيضاً عدم وجود سياسة تعليمية واضحة تبذر في النفوس والعقول قبول الآخر والتسليم بأن التعددية هي العمود الفقري للحياة الإنسانية - ولا يساورني شك أن السواد الأعظم من المصريين أصحاب الخبرة الدولية يشاركونني الرأي في أن هذه المناطق تحتاج إلى تناول جديد ومختلف لأن برامجنا التعليمية بالفعل لا تعمل علي تدعيم هذه القيم الإنسانية التي بدونها سنكون في عزلةٍ عن العالم .

سادساً : هاجمني البعضُ لأنني قلت أن برامج التعليم لدينا لا تساعد علي الرقي بالذوق الأدبي بل تعمل أحياناً علي تنفير التلاميذ من الأدب والشعر والعديد من مناطق الإبداع– وأنا هنا أحتكم لكبار النقاد والأدباء والشعراء ليدلوا بدلوهم في هذا الأمر وقد سمعت بأذني من جلهم أكثر بكثيرٍ مما ذكرته في مقالي (التعليم .. وصناعة المستقبل) بل أن معظمهم يرى أن التدهور الذي أصاب هذه المنطقة من مناطق التعليم هو كارثة متكاملة الأركان ولا أدل علي ذلك من أن جل الشخصيات العامة في مصر لا تجيد الكلام لثلاث دقائق بلغةٍ عربيةٍ سليمة (وأحيل أحد الذين هاجموا مقالي عن التعليم وصناعة المستقبل لمقالٍ للأستاذ ثروت أباظة نُشر في نفس عدد الأهرام الذي كال لي فيه الهجوم ومقال الأستاذ ثروت أباظة بعنوان "حوار في العربية") .

سابعاً : أنني أُقدّر حرص بعض الذين كتبوا علي إرضاء وزير التربية والتعليم وأشهد لهم بأنهم أجادوا أداء المهمة ؛ ولكنني أود أن أوضح لهم أن الآراء التي ذكرتها في مقالي الذي آثار غضبهم وفي 14 كتاب من مؤلفاتي وفي أكثر من مائة محاضرة بعشرات الجامعات في مصر وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان لم تكن نقداً للوزير ولم تكن هجوماً عليه وانما كانت نقداً موضوعياً لمؤسسة تعليمية تقول كلُ التقارير الرصينة أن بقائها علي ما هي عليه سيبقي حجر عثرة وحائل عظيم بيننا وبين الطفرة الاقتصادية التي ننشدها مع ما يواكبها من طفرة علمية وبحثية وأهم من ذلك السلام الاجتماعي الذي نتوخاه لهذا الوطن.

وأترك جانباً كل الحجارة التي تبارى البعض في إلقائها ؛ فأنا أعلم منابع ودوافع ذلك وهو ليس مرتبط ببعض الذين كتبوا فقط وانما هو داءٌ عياء في مناخنا الثقافي العام وصفته في كتابٍ أفردته بالكامل لهذا الموضوع وجلب لي أيضاً من الحجارة ما يكفي للوقوف فوقه لتأمل ودراسة حالة الذين يتحاورون بكيل التهم والتجريح وغير ذلك من أدوات العراك لا الحوار .
(من كتاب "الثقافة أولاً وأخيراً" – 2000).