التيـه الثقـافي



(إن العقلَ المصري قد اتصلَ من جهةٍ بأقطارِ الشرق القريبِ اتصالاً منظماً مؤثراً في حياته ومتأثراً بها، واتصل من جهةٍ أخرى بالعقل اليوناني منذ عصورِه الأولى).
"طه حسين..."


من الحَقائقِ التي كان ينبغي أن تكون واضحة، وأن تكون نتائجُها – بنفس الدرجة - واضحة ومتسقة مع مقدماتها، هي أن هويتنا الثقافية تقوم على الحقائقِ التالية:
  • أَننا -تاريخياً - جزءٌ (بدرجة ما) من الثقافةِ العربيةِ الإسلامية.
  • أَننا -جغرافياً- جزءٌ من ثقافةِ شرقِ البحرِ المتوسط.
    • أَننا -حالياً- جزءٌ من العالمِ الحديثِ والذي يقوده "الغربُ" - وإن كانت الثقافةُ الذائعة والشائعة باسم "الثقافةِ الغربيةِ" هي ثقافة ذات بُعدٍ غربيٍّ (لا ينكر) إلاِّ أنها أيضاً ثقافةٌ ذات بعدٍ "إنساني"، بمعنى أَن الكثير من "المحصولِ الثقافي الغربي" ليس غربياً وإنما وفَد من ثقافاتٍ أُخرى سابقة.....
تلك حقائق ما كان لها أن تكون "غائبة" أو "غائمة" وإنما كان من المنطقي أن تكون واضحةً وجليةً، ولكن في ظلِ انهيارِ المستوياتِ الثقافية وانحسارِ التألق الفكري والثقافي (كنتيجةٍ لظروفٍ حياتيةٍ طاغيةٍ وعاتيةٍ) فإن الصورةَ أَبعدُ ما تَكون عن الوضوحِ، بل إن مُعظم المُهتمين بالشئونِ العامةِ في واقعنا يعانون من "رؤيةٍ" بالغة الضبابية في هذا الشأنِ تجعل من كثير منهم أصحاب أفكارٍ ومواقفٍ بالغة الفقر ثقافياً. ولننظر معاً لتلك الحقائق الثلاث الكبرى من منظورِ واقعنا ومفرداتِ وحقائقِ ومواقفِ هذا الواقع.

نحن وثقافتنا العربية:
المفُترض ألا يكون هُناك إنكار لحقيقةِ أننا -تاريخياً- جزءٌ من الثقافةِ العربيةِ، ويَعنى ذَلك أَن مثقفينا والشَخصيات العامة لدينا يفترض فيهم أَن يكونوا أَصحاب إِلمام طيبٍ بالثقافةِ العربية. ولكن الواقعَ يؤكد أن ذلك وإن كان ينطبق على البعض إِلا أَن تعميمه أبعد ما يكون عن الحقيقةِ. إِذ أَن نظرةً مُتفحصة تُظهر ما يلي من حَقائقٍ مؤلمةٍ:
  • رغم أَن إِتقان اللغة العربية هو العمودُ الفقري للتعاملِ مع دنيا الثقافةِ العربيةِ والإسلاميةِ، فإن أعداداً كبيرة من مُثقفينا والشَخصيات المُهتمة بالشؤونِ العامةِ في واقعنا تملك محصولاً هزيلاً من اللغة العربية، بل وأكاد أجزم أن بعضهم لا يملك أن يتكلم بلغةٍ عربيةٍ سليمة لمدةٍ وجيزةٍ لا تَتَعدى الدقائق القليلة. ومن المؤكد أن أيَّ مُراقبٍ مُنصفٍ لحياتنا العامة سيلاحظ بوضوحٍ أن قدرةَ الشخصياتِ العامةِ على الحديثِ والكتابةِ بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ قد واصلت الانهيار والانحدار خلال السنوات الأربعين الأخيرة حتى بلغت اليوم ما هي عليه من وضعٍ مؤسفٍ (بل وأراه كثيراً كوضعٍ "مهين" لكبريائنا الوطني والقومي) (والإرتباك اللغوي – كما يقول المفكر المصري الكبير مراد وهبه إنعكاس للإرتباك الفكري) .
  • أَن عدداً من مثقفينا والشخصيات المهتمة بالشؤون العامة لدينا لا يكاد يعرف شيئاً عما أنتجته الثقافةُ العربية. فمُعظم هؤلاء يكاد يكون مطلق عدم المعرفة بالشعر العربي وهو أهم أشكال الإبداع الأدبي العربي. وبإستثناءِ معرفةٍ سطحيةٍ ببعضِ الأسماء كأَسماءِ عنترة وإِمرئ القيس وجرير والفرزدق وبشار وأبى نواس وأبى تمام والبحتري والمتنبي وأبى العلاء، فإِن معرفة هذه الشريحة العليا من مجتمعنا بشعر بعض أَو كل هؤلاء (وغيرهم) تَكاد تَكون مُنعدمةً. وقل نفس الشيء على معرفةِ مُعظم مثقفينا والشخصيات العامة لدينا بالنثر العربي، فمُعظم هؤلاء لم يقرأ شيئاً يذكر لابن المقفع والجاحظ والجرجاني وأبى هلال العسكري وإبن قتيبة وإبن عبد ربه الأندلسى وياقوت الحموي والمبرد وأبى على القالي (وعشرات غيرهم).
أَما إِذا وصلنا لعالمِ الفكر وكان قصدنا مناطق كفكرِ المعتزلةِ والأشاعرِة وسائر المذاهب الفكرية (والتي تعرف بالفرقِ عند المتكلمة أَي أَهل علم الكلام -أى الفكر والفلسفة) بما في ذلك الأسماء العظيمة لرؤوس من أجَّل رؤوس الفكر على مستوى التاريخ أمثال ابن رشد وأبى حيان التوحيدي والفارابي والرازي وإبن خلدون (وعشرات غيرهم) فإن عدمَ المعرفةِ تَبلغ مَداها الأقصى.
  • أن غير قليلين من المتحمسين للثقافة العربية هُم أَصحاب مُطالعاتٍ وقراءاتٍ ومعرفة متواضعة بأمهات الكتب العربية والإسلامية مما أدى بهم للخلطِ بين ما هو "مُقدس" (لأنه جزء من الدين) وما كان ينبغي أَن يبقى خارج دائرة القداسة، (لأنه عمل بَشرى مَحض)، إذ تُضفي القَداسة على الكثير من المسائل التي لا علاقة لها بالقداسةِ لأنها -كما ذكرت- من عملِ الإنسان. وعلى سبيل المثال، فإن كثيرين من هؤلاء لا يعرفون الفارق بين (الشريعة الإسلامية) و(الفقه الإسلامي). بل أَن كثيرين منهم يخلطون في معظمِ ما يقولون ويكتبون بين الدائرتين، مع ما يجرنا إليه ذلك من نتائجٍ وخيمةٍ وخطيرةٍ. فمعظم الآراء والأفكار والمفاهيم التي يُرددُها الكثيرون على أساسِ أنها ضمن (الشريعة الإسلامية) هي في الحقيقةِ من أفكارِ ومفاهيمِ (الفقه الإسلامي). والذي لا يَعرفه مُعظم هؤلاء أَن الفقه الإسلامي "عملٌ بشرىّ" قابل للنقدِ والنقضِ والتطويرِ. ويرجع علمُ أصول الفقه لأبى حنيفة النعمان الذي يُعد أول الفقهاء الكبار. وهذا الرجل العظيم هو الذي قال عن أصول الفقه، "علمنا هذا رأى فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه". وهو تعبير بالغ الوضوح. وأبو حنيفة أيضاً هو الذي يرفض إضفاء الق داسة على أحد عندما يقول عن التابعين (أي الجيل التالي للصحابة) "إِذا كان التابعي رجلاً، فأَنا رجل". ورغم أن الإمام مالك ليس كمثل أبى حنيفة فيما يتيحه لنفسه من حرية الفكر والتصرف فهو أيضاً القائل لكل من يدلو بدلوه في المسائل الفقهية: "ما منا إلا من يخطئ ويرد عليه". ومع ذلك، فإِن الخلط بين الدائرتين عندنا على أوسعِ نطاق بل وبين العديد من المتخصصين، وهو خلط شكّل (ولا يزال) قيداً على الفكرِ المُستنيرِ. ويبلغ هذا الخلط أقسى مداه في البيئات التي تأثرت بالثقافة الوهابية وهي ثقافة ظلامية لا يكاد يوجد مجال فيها لإعمال العقل .
ورغم هذهِ الحقائق الجلية، والتي تَدل على أَن أعداداً كبيرة من مثقفينا... لا تعرف شيئاً عن ثقافتنا العربية، فإِن البعض من هؤلاءِ لا يَتورع عن تنصيبِ نَفسه مُدافعاً (بعاطفية متأججة وانفعال عنفواني) عن ثقافتنا العربية التي هو أَبعد ما يكون عن معرفتها، لأنه -ببساطة- لم يقم بالجهدِ الواجبِ ويُطالع الثمار العديدة لهذهِ الثقافة في مجالاتِ الشعرِ والنثرِ والفكرِ...

وإذا كان أَحدُ روادِ الأدبِ العربي البارزين قد قال في مقدمةِ أَحدِ كتبِه: "إِن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه"، فإِننا لا نملك إِلا أَن نَقول أن مُعظم المتحمسين عاطفياً لثقافتنا العربية يفتقدون تماماً لأهلية الدفاع عن هذهِ الثقافة العظيمة، لأن من لا يَعرف شيئاً لا يَحق له الحكم عليه ناهيك عن الدفاعِ عنه.

ولهؤلاء نَقول: إِذا كُنتم في شَبابكم لم تُطالعوا عشرات الدواوين الشعرية العربية ومئات الآثار العربية الأخرى في مجالاتِ الأدبِ والفلسفةِ (الكلام) فمن أَين تَستمدون الحق في الدفاعِ عن ثقافةٍ لم تأَخُذوها مأَخَذ الجد الكافي عندما لم تعكفوا على الاطلاعِ على آثارها العظيمة؟

وخلاصة القول هنا، أَننا عندما نَقف أَمام مُعظم المتحمسين للثقافةِ العربيةِ فإِننا نَقف أَمام مُتعصبين عن غيرِ علم. أَما الذين عرفوا هذه الثقافة حق المعرفة وطالعوا المئات والآلاف من آثارها، فهم وحدهم الذين يحق لهم الفَخر ببعض آثارها (كأعمال ابن رشد مثلاً) . وحتى أَكون مُحدداً للغاية، فإِنني أَقول إن رجلاً مِثل أحمد أمين صاحب موسوعة "فجر الإسلام" و"ضُحى الإسلام" و"ظُهر الإسلام" و"يوم الإسلام" يمَلك أَن يَحكم على الثقافةِ العربيةِ، ويَملك أَن يعجب ويَفتَخر بها، لأنه أَحاط بثِمارها العَديدة وعَرف ثمارها، فمما لا شك فيه أن من حق العرب والمسلمين أن يفتخروا – بما كان لبعض أجدادهم من نصيب في إثراء الفكر والثقافة الإنسانية.

نحن وثقافة البحر المتوسط:
خلال العقود الأربعة الأولى من القرنِ العشرين كان المجُتمع المصري شديدَ الصلةِ بالدوائرِ المُحيطة بمِصرَ جغرافياً وأَعنى مَنطقة شرق البحر المتوسط. وخلال هذه الفترة كان من الواضحِ أَن مِصرَ وإِن كانت تَنتمي –تاريخياً- للثقافةِ العربيةِ والإسلاميةِ إِلا أَنها في نفسِ الوقتِ ذات صلة قوية بحضارة البحر المتوسط وما يَعكسه ذَلك ثقافياً على مِصرَ والمصريين. وكان العَقلُ المصري على درجةٍ من الوضوحِ تَسمح له أَن يرى الحكمةَ الواضحة في كلماتِ الدكتور طه حسين في كتابهِ "مُستقبل الثقافة فى مِصرَ" الذي صَدَر في سنةِ 1938، عندما أَبرز أهميةَ البعدِ الحضاري والثقافي الناجم عن كوننا منْ دول البحر المتوسط كما أَننا (بنسبٍ متفاوتة) منْ الدولِ العربية والإسلامية والأفريقية. وتأتى أهميةُ هذا البعد من حقيقةِ أَن مُعظم الحضاراتِ القديمة كانت حَضاراتٍ مُطلة على البحر المتوسط (الحضارة المصرية... الحضارة الفينيقية... الحضارة الإغريقية... الحضارة الرومانية). وأَن إِنكار هذا البُعد (لحسابِ أبعاد أخرى) هو عملية غير علميةٌ ومُخالفة لحقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن مخالفتها.

وإِذا كان العقلُ المصري قد اتسم دائماً –عبر التاريخ- بصفةٍ تسامحٍ قويةٍ، هي أَهم مزايا الشخصيةِ المصريةِ، فأَنها سِمةٌ أَو صفةٌ تتصل بهذا البُعد (بعد البحر المتوسط) أكثر من اتصالها بأبعادنا الأخرى. ومن المؤكد، أَن الهزالَ الثقافي الذي اعترانا خلال السنوات الأخيرة وما واكب ذلك من جموحِ بعض التياراتِ الفكرية وعدم إِعتزازها إِلا ببعدٍ واحدٍ من أَبعادنا الثقافية، قد لعب دوراً كبيراً في إضعافِ هذا البُعد من أَبعادنا الثقافية، رغم عظيم أهميته كجسرٍ بيننا وبين العالمِ كلهِ، وكمصدرٍ من مصادر مَلمحٍ منْ أَهم ملامحنا الحضارية وأَعنى"التَسامح".

نحن وثقافة العصر:
من أكثر المسائل الفكرية والثقافية التي حيرتني ولسنواتٍ طويلة والتي كلما شُغلتُ بها فكرياً وظننت أنني وصلت فيها إلى يقينٍ قاطعٍ جاءت محاوراتٌ ولقاءاتٌ وحواراتٌ وقراءاتٌ ووجهاتُ نظرٍ شخصية لتثبت لي أنني لم أبلغ فيها بعد حد اليقين وأَعنى علاقة العقل العربي بالثقافة التي تُعرف بالثقافة الغربية وما أكثرَ ما حيرتني الطريقةُ التي نتعامل بها مع هذا الموضوع. فهناك كثيرون في واقعنا يظنونَ أن الإيمانَ والاعتدادَ والإعتزاز بثقافتنا الخاصة وهى الثقافة العربية إنما يعني أن نكونَ في موقفِ المعاداةِ أو التحفز أو التوتر تجاه الثقافة الغربية. والبعضُ الآخر يرى أن العصرية ومسايرة الزمن يعنيان معرفة الثقافة الغربية والتفاخر بها، دون اكتراث بالثقافة العربية الإسلامية أو الإسلامية العربية.

وقد لاحظتُ في مُعظَمِ الحالات أن الذين يقولون بأن علينا أن نعتز بثقافتنا الخاصة يضمون أعداداً كبيرة ممن أُتيحَ لهم أن عرفوا بعضَ الأشياء عن الثقافة العربية دون أن يتاح لهم معرفة القدر الكافي عن الحضارة الغربية. بل وحيرني كثيراً أن بعضَ هؤلاء "المعتزين" لا يعرف إلا أقل القليل عن ثقافتنا.

نحن إذن بصدد فريقٍ يعتز ويفتخر بثقافتنا العربة وهو يعرف القليل عنها ولا يعرف تقريباً أي شيء عن الثقافة الغربية، كما أننا بصددِ فريق ثان يعتز بثقافتنا العربية ولا يكاد يعرفُ شيئاً عنها، وهو في نفس الوقت لا يعرفُ شيئاً عن الثقافة الغربية، وكان الفريقُ الثاني يذهلني كثيراً لأنه كان يشبه أمامي رجلاً يعتز بقبيلته اعتزازاً يقوم على العصبية لا غير. أما الفريقُ الأول فكنت أفهم موقفه لأنه أُتيحَ له القليل من المعرفة عن الثقافة العربية ولم تُتَح له معرفة وافية بالثقافة الغربية فكان من الطبيعي أن يتخذ موقفاً فكرياً هو أيضاً أقرب ما يكون للموقفِ الوجداني العاطفي عن الموقف الفكري.

وكانت حيرتي تمتد لدائرةٍ ثالثة من دوائر الحيرة عندما كُنتُ أخوضُ في حواراتٍ طويلة مع فريق ثالث مختلف تماماً إذ أنه يزدري الثقافة العربية ويُعجب كل الإعجاب بالثقافة الغربية وهؤلاء كانوا ينقسمون أيضاً إلى فريقين، فريق لا يعرف إلا أقل القليل عن الثقافة الغربية. في نفس الوقت لا يعرفُ شيئاً عن ثقافتنا العربية، وفريق رغم ولعه الشديد بالحضارة الغربية فإنه لا يعرف عن الثقافة الغربية شيئاً يذكر ناهيك عن عدم معرفته شيئاً يذكر عن الثقافة العربية. وفى سنواتِ التفكير والحيرة بصدد هذه المسألة وجدتُ أنني لا أملكُ إلا التعجب، وأنا أرقبُ هذه المجموعاتِ الأربعة.

وكما ذكرت، فقد حيرتني هذه المجموعات الأربعة وأذهلني موقفُ كلٍ منها وأذهلني موقفُ أفرادها كما أضناني الحواُر معها لأنه حوار يشبه ما يسميه العربُ بحوار الطرشان، لأنك تتكلم مع أي فردٍ من أي مجموعةٍ من هذه المجموعات فيردُ عليكَ رداً ينبئ بأنه يتكلم كلاماً ما هو إلا صحيفة اتهام كانت جاهزة لديه من البداية وهى صحيفةُ اتهام تقومُ على التعصبِ والتشددِ والتحيز الوجداني والعاطفي، ولا تقوم على فهمٍ ودرايةٍ واسعة وثقافةٍ عميقةٍ أو عريضة. ولا شك عندي اليوم بعد سنواتٍ طويلة من الاهتمامِ بهذا الموضوع أن معظمَِ الأفرادِ في مجتمعنا المصري والعربي يندرجون تحت واحدة من هذه الفئات الأربعة.

ولكن هناك أيضاً فئة خامسة تختلفُ اختلافاً كبيراً عن الفئات الأربعة التي ذكرتها ولكنها فئة لا تضمُ إلا أعداداً صغيرة للغاية، إنها الفئة التي يؤمنُ أفرادُها بأن الثقافة العربية أنتجت ما يجعلنا نفتخرَ بها. وأفراد هذه الفئة يعرفون عن هذه الثقافة الكثير، فقد قرءوا عيون إبداعات هذه الثقافة منذُ ازدهرت بعد أقل قليلً من مائةِ سنة على ظهورِ الإسلام، ثم إرتفع نجمُها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين حتى بلغَ آفاقاًَ بعيدة من آفاقِ التألق. هؤلاء يعرفون عن الشعر العربي الكثير ويدركون قيمة ما توصل إليه الفكر العربي من أبعاد رائعة من التأنقِ والتألقِ تجلَّت في إبداعاتِ فكرِ المُعتزلة، كما تجلت في آثار ابن رشد الفذة .

إن أفراد هذه المجموعةِ القليلة يتيهون إعجاباً بفكرِ ابن رشد وابن سينا وابن خلدون كما يفتخرونَ بعبقرياتٍ شعرية مثل أبى نواس والمتنبي وأبى العلاء المعري. وبعبقرياتٍ في النثرِ العربي مثل المعري (مرة أخرى) في رسالة الغفران. وإذا تذكروا الشأو البعيد الذي بلغه علامةٌ مثل الرازي شعروا بدرجةٍ رفيعةٍ من الزهو والمجدِ. إذن أفراد هذه الفئة الخامسة مطلعون بعمقٍ على الثقافة العربية وهم يفتخرون بما يعرفون، ولكنهم أيضاً يدركون أن الثقافة العربية هي عمل إنساني ولا يضفونَ عليها القداسة وإنما يكتفون بإضفاء هذه القداسة على القرآن الكريم.

إن أفراد هذه المجموعة الخامسة يعرفون أيضاً عن الثقافةِ الغربية الكثير ، فهم غطوا مساحاتٍ واسعة من مناطقِ الثقافة الغربية بل ومن منابعها القديمة مثل الثقافة اليونانية والرومانية وثقافة عصر النهضة أو الرينيسانس. أما ثقافات الحضارة الغربية الحديثة فقد أحاطوا بها إحاطةً جيدةً وخاضوا في معظم فروعها كالأدبِ والفنون والتاريخ وعلوم السياسةِ والإجتماع والاقتصاد وعلوم الفلسفة وعلم النفس كما توسعوا في الاطلاع على موجات العلوم الحديثة المتصلة بحركة الاقتصاد المعاصر. وأفرادُ هذه المجموعة وإن كانوا يعجبون بالكثيرِ من إنجازاتِ الحضارة الغربية إلا أنهم لا يصلون إلى حد الافتتان والتقديس لأنهم يعلمون أن الحضارة الغربية حضارة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها، وإن كانت صاحبة إنجازات عظمى مثل خلقِ نظامِ عملٍ مُنتج وفعال، ومثل تطوير علاقة الحاكم بالمحكوم أو المحكوم بالحاكم في ظل منظومةٍ راقية تسمى الديموقراطية ومثل حقوقِ الإنسان، إلاَّ أن الحضارة الغربية تبقى "عملاً إنسانياً" لا يخلو من العيوب والنقائص – شأنه شأن كل شئ بشري.

وقد حيرني أن الأغلبية العظمى في واقعنا تنتمي لمجموعةٍ من المجموعاتِ الأربعة الأولى. أما المجموعة الخامسة فلا يكاد أفرادُها يتجاوزون في عددهم المئات على مستوى الوطن العربي بأسره وهم في الأغلب الأعم يتخوفون من إبداءِ وجهاتِ نظرهم، لأنهم كثيراً ما يقابلون بالهجوم وغالباً ما يكون الهجوم ظالماً عندما يتهمون بأنهم مبهورون بالحضارةِ الغربيةِ. والحق أن معظم هؤلاء غير مبهورين بالحضارة الغربية لأنهم يعرفون عنها ما يجعلهم يعجبون بالكثيرِ من ثِمارها ولكن دون أن يمنعهم إعجابهم من رؤية سلبيات الثقافة الغربية.

ومع ذلك فإن معظم أفراد المجموعات الأربعة الأولى لا يفهمون موقفَ هذه المجموعة الخامسة ولعل السبب أن الإنسانَ عادةً لا يرى ما يجهل ويفقد تماماً القدرة على الحكم على ما لا يعرف. ولكن في داخل المجموعات الأربعة تختلف المواقفُ، فبينما يتسم أفرادُ المجموعة الثالثة والرابعة بمسحةٍ تظهرهم وكأنهم عصريون ومتمدنون، فإن أفرادَ المجموعة الأولى والثانية يظهرون في موقفٍ بالغ التعصب. والحقيقة أن أفرادَ المجموعات الأربعة يشتركون في صفةٍ أساسيةٍ وهى أنهم يحكمون على أشياءٍ لا يعرفونها وأنهم يفتقدون ويفتقرون لأهم عناصر الحكم. كذلك فإن أفراد المجموعة الثالثة والرابعة ليسوا بالضرورةِ أكثرَ تحضراً وتمدناً من أفرادِ المجموعةِ الأولى والثانية وإن كانت المظاهرُ الشكلية قد تدل أحياناً على ذلك وهو غير صحيح.

والمشكلة الكبرى أن الحوارَ يكاد يصبَحُ مستحيلاً بين أفراد المجموعة الخامسة والمجموعات الأربعة الأخرى، فإن ما يطلبه أفرادُ المجموعة الخامسة لا يجد أذناً صاغيةً لدى أفراد المجموعات الأربع الأخرى. لأنهم في الحقيقة يظنون أنهم يُهاجمون ويُطعَنونَ في مُقدساتهم فيتخذون موقفاً عاطفياً وجدانياً قد يبلغ حد العنف لأنهم يشعرون أن الواجب يملي عليهم الدفاع عما يعتزون به ويفتخرون به. ولا شك أن المسؤولية الثقافية والفكرية بل والوطنية، تلقى على أكتاف المجموعة الخامسة مهمةً كبرى. هي إقامةِ حوارٍ متحضر مع أفراد المجموعات الأربع الأخرى يؤسسُ على تسليطِ الضوء على الحقائق والأخذِ بيدِ أفرادِ المجموعاتِ الأربع الأخرى، ليروا أنه لا تعارض في الحقيقة بين أن يعرف الإنسانُ ثقافته ويفتخر بها ويبلغ في الاعتزاز بها أبعد الحدود وأن يكونَ في نفس الوقت ملماً بثقافةِ العصر المتمثلة في الثقافةِ الغربيةِ دون أن يسْقطَ في وهدةِ الانبهار الأعمى والتقديس الذليل لهذه الثقافة لأنها مجرد ثقافة إنسانية لها مزاياها ولها أيضاً عيوبها. ويجب على أفراد المجموعة الخامسة أن يحيطوا الحوارَ دائماً بإطارٍ من الاحترامِ مع بذلِ كل الجهودِ الفكريةِ والعقليةِ وال ثقافيةِ والموضوعيةِ لكي يظهروا لأفراد المجموعة الأولى والثانية بالذات أن الثقافة التي تسمى بالثقافةِ الغربيةِ ليست في الحقيقة حضارة غربية محضة وإنما ثقافة إنسانية تمركزت حالياً في الدولِ الغربيةِ المتقدمة ولكنها في جذورِها أخذت الكثيرَ من الحضارةِ اليونانية القديمة ومن الحضارة العربية في عصورِ ازدهارها كما أنها أخذت الكثير من حضاراتٍ أخرى قديمة كالحضارةِ الرومانية وغيرها من الثقافاتِ الحديثةِ.

إن على أفرادِ المجموعة الخامسة أن يظهروا أن الجمعَ بين فهم ثقافتنا الشرقية (العربية والإسلامية) وبين فهمِ واستيعابِ الثقافةِ الغربيةِ أمرٌ ممكنٌ وميسورٌ، دون أن يفقد الإنسانُ هويته ودون أن يصير تابعاً للثقافة الغربية بشكل أعمى. لذا لا يجب أن نسقط أبداً في حفرة التساؤل المستحيل: "هل نتبع أم نأَخذ هذه أو تلك؟" لأن الجواب السليم هو “هذه وتلك". نأخذ من ثقافتنا الكثير، ونأخذ من ثقافة الغرب الكثير أيضاً . ويبقى المحورُ الهام هو أن يعترف أفرادُ المجموعاتِ الأربعة الأولى بأن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه، وبالتالي فإن على أفراد المجموعتين الأولى والثانية أن يؤمنوا أن أحكامهم على الثقافةِ الغربية لا يمكن أن تكون سليمةً لأنهم بسهولةٍ وبوضوحٍ تامٍ لا يعرفونها، ولا يعني ذلك على الإطلاق أن ثقافتهم العربية الإسلامية خاطئة، ولكنه يعني أن أحكامهم على الثقافة الغربية لا تستند على أي أساسٍ من منطقٍ أو علمٍ. كذلك ينبغي أن نصل بأفرادِ المجموعةِ الثالثةِ والرابعة ليقينٍ واضح بأن مواقفهم ليست أفضل من موقف المجموعة الأولى والثانية لأنهم أيضاً يؤمنون إيماناً يقوم على التقديس في غير محله والانبهار وهو ما لا يصلح لأن يكون أ ساساً للأحكام. ناهيك عن أن سوادهم الأعظم لا يعرف عن الثقافة الغربية إلا القليل والقشور كما أنهم يجهلون عن ثقافتهم العربية كل شيء تقريباً، وهنا فإنهم يقعون مرة أخرى تحت طائلة الحكم المنطقي الذي لا يقبل النقاش بأن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه - وقد يكون أفرادَ المجموعةِ الثالثةِ والرابعةِ غير مهتمين بالحوار أصلاً. أما أفراد المجموعة الأولى والثانية فإن الانفعال والالتهاب الوجداني الذي يتخذونه والربط الشديد بين المناقشة هنا وبين الكرامة والإعتزاز التي تشوب تناولهم للأمر تجعل الحوار شبه مستحيل وتجعله صعباً للغاية فهم أقرب ما يكونون للصدام، الأمر الذي يحول بينهم وبين أن يفتحوا أعينهم على حقائق إذا رأوها وجدوا أنهم يمكن أن يظلوا متمسكين باعتزازهم وفخرهم وانتمائهم لثقافتهم مع تعلم واسع وإدراك ومعرفة بثقافة الغرب التي هي ثقافة العصر دون أن يفقدوا هويتهم أو كرامتهم ودون أن يصبحوا تابعين لأحد. والحقيقة أنهم في هذه الحالة يزدادون ولا ينقصون ويقوون ولا يضعفون، إلا أن الموقف الوجداني الذي يتخذونه يجعل من الحوار معهم مهمة صعبة-وليست مستحيلة -وعلى أفراد المجموعة الخامسة أن يعرفوا أنه بدون الموضوعية والبعد عن ال انفعال عن مس المقدسات، فإن الحوار مع أفراد المجموعة الأولى والثانية سرعان ما ينقطع ويُصبح من شبه المستحيل وصله مرة أخرى.