ثقافـة الموظفيـن



إن فاتك (جاءك) الميري، اتمرغ (تمرغ) في ترابه.            "مثل عامي مصري"..

في كل مجتمع من المجتمعات يكونُ المناخ الثقافي مُشبعاً بعدة أفكار عن العملِ والوظائف يُشكلُ اتجاهها عنصراً من عناصرِ المناخِ الثقافيِ العام. فماذا عن هذا البعد في "عقلِنا المصري"؟

إن نظرةً سريعةً لتاريخِنا الممتدِ عبر قرونٍ عديدةٍ تثبت أن (العملَ للحاكمِ أو للأميرِ أو للحكومةِ) كان دائماً شيئاً بالغَ القيمةِ والأهميةِ في ذهنِ وعقولِ وتفكيرِ المصريين …. إن نظرةً سريعةً لتاريخِ مصرَ كما كتبُه مؤرخون ثقاةٌ مثل المقريزى وابن إياس (صاحب أوثق تاريخ للحقبةِ المملوكيةِ التي امتدت بشكلٍ سافرٍ حتى سنة 1517 وهى السنة التي قُتلَ فيها طومان باي بعد دخولِ الجيش العثماني لمصرَ بقيادةِ السلطان سليم شخصياً وصيرورة مصرَ "ولايةً عثمانيةً"..) إن نظرةً سريعةً لهذهِ الكتاباتِ التاريخيةِ الرائعةِ تُثبت أن (العملَ للحاكمِ أو للأميرِ أو للحكومةِ) كان دائماً شيئاً قيماً ومميزاً عند المصريين ... 4

وما أن بدأت الحكومةُ تتحول إلى شكلٍ عصريٍّ من أشكالِ الإدارةِ في عهدِ محمد على حتى تعاظمتُ قيمة أن يعمل المصري في عملٍ مرتبطٍ بالحكومةِ ... أو بالأميرِ... وهو مصدر كلمة (أميري) أو ميري التي كانت دائماً ذات دلالةٍ واضحةٍ...الموظف الميري... والثياب الميري... وكل ما هو (ميري)، كان دائماً ذا دلالةٍ واضحةٍ ومميزةٍ.

وإذا كانت الأمثالُ الشعبية هي ترجمةً واضحةً ودقيقةً لمكوناتِ عقلِ الجماعةِ، فإن كتابَ الأمثالِ الشعبيةِ المصريةِ لأحمد باشا تيمور يقفُ شاهداً بما احتواه من أمثلةٍ عن قيمةِ وأهميةِ العمل تبع الحكومة عند المصريين الذي عبّرُوا عن حبِهم الشديد للارتباطِ مدى الحياة بالعملِ الميري والذي جاءت الأمثلةُ لتبالغ في تصويرِه عندما تحدثت عن روعةِ التمرغ في ترابِ الميري أي الأميري أي الحكومي.

ومن هذا الارتباط الوثيق بين المصري والميري، نبتت عدةُ مفاهيمٍ صارت كالمسلماتِ، لعل من أهمِها ما يلي:
  • 1. أن التوظفَ الحكومي أرقى وأكرم من التوظفِ للقطاعِ الخاص.
  • 2. أن التوظفَ الحكومي هو (الضمانةُ الكبرى) في مواجهةِ مخاطرِ الرزق والحياةِ.
  • 3. أن التوظفَ الحكومي أفضلُ من التوظفِ للقطاعِ الخاصِ حتى لو كان مردودُه المادي أقلَ بكثيرٍ.
  • 4. أن التوظفَ الحكومي مصدرُ "وجاهةٍ اجتماعيةٍ" لاسيما عندما يرتقي الموظفُ العام لقممِ الوظائف العامة، وهذه الوجاهةُ الاجتماعية بالذات أصبحت عبر السنين مصدرَ "قيمة عظمى" عند المصريين.
  • 5. أن "الاستقالةَ" و"تغييرَ العملِ" هما من الأمورِ نادرةِ الحدوث نظراً لأنهما ينطويان على إخلالٍ جسيمٍ بالمفهومِ المستديمِ للوظيفةِ العامةِ، لدرجةِ أن المجتمعَ أصبح ينظر للمستقيلِ نظرتَه للمغامرِ أو الطائشِ الذي لا يحسن تقديرَ الأمورِ.
وقد قصَّ على أحدُ الأصدقاء وهو مؤلفٌ لأكثر من خمسين كتابً نصفها عن الحضارةِ المصريةِ القديمةِ والنصفُ الآخر عن الآدابِ الأوروبيةِ الحديثةِ أنه عندما قدم استقالته من العملِ الوظيفي وهو وكيل وزارة النقل قام رئيسُه بتمزيقِ الاستقالة في موقفٍ يعبرُ عن أنه إنقاذٌ له من مغبةِ ورقةٍ طائشةٍ لابد أن صاحبَها قد سطرَها في لحظةِ إحباطٍ أو غضبٍ أو طيش! وهذا المؤلف هو الأستاذ/ مختار السويفي الذي أَصرَ على قرارِه وعلى تفرغهِ للتأليفِ والكتابةِ. وهناك عشرات الأمثلة المشابهة والتي تعبرُ كلُها عن "عمقِ قيمةِ الوظيفةِ الحكوميةِ الآمنةِ والمستمرةِ" عند معظمِ المصريين.

وربما لا توجد قصةٌ تدلُ على عمقِ هذا المفهومِ من حوارٍ دار بيني وبين شابٍ كنت أعلم أنه يعملُ بإحدى الصحف إلاَّ أنه أدهشني بقوله أنه ما زال لا يعمل ... فلما سألته عن عمله بالجريدةِ التي كنت أعلم أنه يعملُ بها قال لي (أنا لم أثبت بعد ...يعني لا أعمل) . . . وهكذا فإن العملَ الذي يقومُ به والأجر الذي يحصلُ عليه ليسا في اعتقادِه دليلاً على أنه يعمل لأنه (غيرُ مثبتٍ) وهي حالة تعبر بوضوحٍ كاملٍ عن مفاهيمٍ إداريةٍ ثقافيةٍ تنبعُ كلُها من دائرةِ الوظيفةِ الحكوميةِ.

ولكن من المؤكدِ أن المستقبلَ لن يكون -في هذا المجالِ- صورةً مكررةً من الماضي. فمن المؤكدِ أن دورَ الدولةِ الواسع في الحياةِ الاقتصاديةِ والذي بلغ قمةَ اتساعِه في مصرَ في الستينيات سوف يكون مختلفاً تماماً في المستقبلِ القريبِ. فالدولةُ التي كانت بمثابةِ (ربِ العملِ) للسوادِ الأعظمِ من المصريين، لن تكون كذلك في المستقبل. وسيقتصر دورُ الدولة -كما ذكرت- على وضعِ السياساتِ والتشريعاتِ ومراقبةِ تطبيقها. أما الأنشطةُ الاقتصاديةُ الإنتاجيةُ والخدميةُ فسيتحول معظمُها للقطاعِ الخاصِ، وستكون فرصُ العملِ لدى الحكومةِ أو القطاعِ العام في انحسارٍ مستمرٍ. وفى المقابلِ، فإن معظمَ فرصِ العملِ الجديدةِ ستكونُ فرصاً يطرحُها القطاعُ الخاصِ.

ولاشك أن ذلك سيعني -فيما يعني- ذبول العديدِ من المفاهيمِ الإداريةِ التي كانت تنبعُ من كونِ الأغلبيةِ تعملُ لدى الحكومةِ. ولاشك أن مفاهيماً أخرى جديدة سوف تبرز وتصبح هي (الأساسَ) للثقافةِ الإداريةِ الشائعةِ في المجتمعِ.

فما هي أهم ملامح تلك المفاهيم التي يعتقد أنها ستصاحبُ وتواكبُ تحولَ المجتمعِ لاقتصادِ السوقِ؟

من الممكن الاسترسال في العديدِ من ملامحِ هذا التغييرِ، ولكنني أفضلُ الإيجازَ والاقتصارَ على بعضِ (لا كل) المفاهيمِ المتوقعِ أن تكوّن ما نسميه بثقافةِ المستقبلِ الإداريةِ:
    1. فرصُ العملِ بين احتياجاتِ السوق الفعليةِ والمؤهلات الدراسية :
    بينما تحكم سوق الوظائف نوعية وخلفية المؤهلات الدراسية للشخصِ في نظمِ الاقتصادِ الموجه، فإن نظم إقتصاد السوق تنطلق في هذه الجزئية من زاوية مختلفة وهى حقائق واحتياجات السوق وهو ما ينعكسُ على المدى الطويلِ على البرامجِ الدراسيةِ وتوجهاتِ الأشخاصِ الذين يأخذون في الاعتبارِ حقائقِ السوقِ قبل أي اعتبارٍ آخر.

    . تراجع عددِ الوظائف التي تستغرق الحياةَ العملية للإنسان :
    منذ سنوات غير بعيدة كان أشخاص عديدون يقضون عمرهم العملي أو الوظيفي في مكان عملٍ واحدٍ ولكن من المؤكد أن حقائق الحياة الاقتصادية العصرية لن تسمح بالعديدِ من هذه الحالاتِ حيثُ سيكون من الصعبِ تصور وجود وظيفة لمدى العمر العملي لأعدادٍ كبيرةٍ من الناسِ وقد بدأت مجتمعات عديدة تشهد ظاهرة تنقل الإنسان في حياته العملية من وظيفةٍ لأخرى ومن مجالِ عملي لمجالٍ آخر، ومع ذلك فمن الضروري أن نذكر أن المناخ الحضاري والثقافي يلعب دوراً هاماً في ما يتعلق بهذه الجزئية ولا أدل على ذلك من النموذج الياباني.

    3. ذبول واندثار مفهوم "الأقدمية" الذي نشأ واستقر في ظل الوظيفةِ العامة:
    كان شغل الوظائف الكبرى في مجتمعنا، مثله مثل العديد من المجتمعاتِ، على أساسٍ من مفهوم الأقدمية الذي رسخ في مفاهيمنا الإدارية لسنواتٍ طويلةٍ ولكن حقائق الإقتصاد المعاصرة تؤكد أن تولى الوظائف العليا سيكون في المستقبل لأسبابٍ ليس من بينها الأقدمية.

    4. ذبول واندثار أهمية (السن) و(المؤهل الدراسي) كمعيارين أساسيين للعديدِ من الوظائفِ. وفى المقابلِ، فإن المستقبلَ سيشهدُ حالاتٍ عديدةٍ يرأسُ فيها من هم (أصغر سناً) أشخاصاً في سنٍ أكبرْ… كما سيشهدُ المستقبلُ حالاتٍ عديدة يرأس فيها أصحابُ مؤهلاتٍ دراسيةٍ ما أشخاصاً يحملون درجاتٍ علمية أكبر وأعلى، وهو الوضع الشائع في المؤسساتِ الاقتصاديةِ العالميةِ الكبرى كالشركاتِ متعددةِ الجنسياتِ، حيث يكون المعّول على (الكفاءة) كما تُعبر عنها النتائجُ لا كما تُعبر عنها (الأوراقُ).

    5. تعاظم قيمةِ (الكفاءةِ الشخصيةِ) Personal Competence محل القيم التي تأخذ طريقها للاندثارِ مثل قيم (السن) و(الأقدمية) و(مسميات الدرجات العلمية).

    6. تعاظم أهمية قيم جديدة مثل:
      أ- القدرة على الاتصالات. Communication Skills.
      ب- القدرة على القيادة. Leadership Ability.
      ج- التمييز بين فئة الـ Generalist وفئة الـ Specialist.
      د- التمييز بين الأداء Performance والقدرة Potential.
    7- كذلك سينحسرُ دورُ القياداتِ الإداريةِ ذات الأبعادِ المحليةِ (Localized) لصالحِ القياداتِ الإداريةِ ذات البعد الدولي، وهي نتيجةٌ طبيعيةٌ لنظمِ العولمةِ (Globalization) ولاتفاقياتِ الجات وما يماثلها من نظمٍ تهدفُ للتقليلِ من الحمائيةِ وتعظيمِ المنافسةِ.