ثقـافة " الحلول الوسـط " .


إسترعى إنتباهي منذ سنواتٍ أن لغتنا (الفصحى والعامية) لا توفر ترجمة لكلمةِ Compromise الإنجليزية إلاِّ بأكثرِ من كلمةٍ واحدةٍ . فأغلبُ الظن أن الترجمة الشائعةَ والذائعةَ لهذه الكلمة الإنجليزية هي "حل وسط" . وقد حاولتُ كثيراً أن أجدَ في المعاجمِ والقواميسِ العربية القديمة والحديثة ترجمة لهذا المصطلح الأجنبي والشائع (بتغييراتٍ طفيفة في الحروف) في كل اللغات الأوروبية سواءً منها التي تعود للعائلة اللاتينية أو للعائلة الجرمانية أو للعائلة اليونانية أو أخيراً التي للعائلة السلافية . وقد واجهتني نفسُ المعضلةِ مع كلماتٍ أخرى ليس هذا مجال التطرق إليها وإن كانت أهمها كلمة Integrity التي ذاع إستعمالهُا في لغاتِ أوروبا وأمريكا الشمالية خلال العقودِ الأخيرةِ ذيوعاً واسعاً للغايةِ ، وهي أيضاً كلمة لن تترجم إلى العربية بأقل من ثلاث وربما أكثر من الكلمات . ولما كانت اللغة هي ليست مجرد "أداة إتصال" وإنما هي "وعاء ثقافي" تصبُ فيه القنواتُ الثقافية وطرائقُ التفكيرِ وروحُ التعاملِ مع الأشياء والآخرين فقد إنتهيت (بشكلٍ نسبي)، إلى أَنني أمام ظاهرة ذات دلالاتٍ ثقافية (وبعد ذلك: سياسية وإقتصادية وإجتماعية عديدة). وأثناء ما يقلُ قليلاً عن عشرين سنة من التواجدِ في مؤسسةٍ إقتصاديةٍ عالميةٍ كبرى ذات تاريخٍ طويلٍ (إذ بقت ضمن أكبر خمس مؤسسات إقتصادية في الكون منذ القرن قبل الماضي وحتى اليوم كما أنها تعمل في كلِ دولةٍ من دولِ العالم) فقد إسترعى إنتباهي في ظلِ وجودِ أفرادٍ ينتمون لأكثر من مائة جنسية في هذه المؤسسةِ أن الأفرادَ الذين ينتمون لخلفيةٍ أوروبيةٍ غربية يستعملون الكلمة (Compromise) أكثر من الذين يجيئون من خلفياتٍ ثقافيةٍ شرقيةٍ بل لاحظتُ أن الآخرين أقل إستعمالاً للمصطلح من المجموعةِ الأولى . ولما كانت دراسةُ الثقافاتِ المختلفة واحدة من أهم هواياتي ولاسيما المقارنة بين العقل العربي والعقل اللاتيني والعقل الأنجلوسكسوني ، فكما أنني لاحظتُ أن العقلَ العربي أقل إستعمالاً للكلمة من العقل اللاتيني فإن العقل اللاتيني أقل إستعمالاً للكلمةِ من العقل الأنجلوسكسوني ، وهي ملاحظة لن يكون من العسيرِ تفسيرها: فتأصيل التفكير على أرضيةٍ من المبادئ الفلسفية/ الدينية (وهو ظن أكثر منه واقع) بالنسبة للعقل العربي تجعل من الطبيعي أن يكون إستعمال الكلمة (Compromise) ومعناها أقل من إستعمال العقل اللاتيني لها وإن كان العقلُ اللاتيني أيضاً محكوماً بأساسٍ فلسفي (وإن كان أثر الدين فيه أقل) إلاِّ أنه بالمقارنةِ بالعقل الأنجلوسكسوني يُعتبر عقلاً أقل إستعمالاً للكلمةِ ومعناها (Compromise) . فالعقلُ الأنجلوسكسوني والذي يسود ويقود العالمَ اليوم بإنفرادٍ لا مثيل له (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) مؤسسٌ على قواعدٍ مختلفةٍ : فأبرز فلاسفة بريطانيا منذ ثلاثة قرون "جريمي بينتام" كان يؤسس النظم والقوانين والمؤسسات والأفكار على أساس النفع (النفعية) أما الولايات المتحدة الأمريكية فيمكن ببعض التبسيط أن يقول المرءُ أنها أنتجت فيلسوفين كبيرين هما ويليامز جيمس وجون ديوي ترجما في أعمالهما نفس أفكار جريمي بينتام ولكن بإختلافاتٍ أملتها تطوراتُ الزمنِ والأحداث وتحت مسمى آخر هو البرجماتية (Pragmatism) . ورغم تمسك الشعوب الآسيوية (من الأرومات الصينية واليابانية والهندية) بمعظم خصوصياتها الثقافية إلاِّ أنها (بذكائها غير المنكور) قد تعلمت معنى المصطلح الإنجليزي (Compromise) قبل أن تتعلم شكله اللغوي وصارت في كل أمورِها تميلُ إلى حلولٍ متسمة بطابع الـ Compromise . وحتى الشعوب اللاتينية فقد غزتها فكرةُ المصطلح قبل أن يغزوها المصطلح نفسه (Compromise) وأصبح ذلك واضحاً لكل من يطالع الكتابات السياسية في الفكر السياسي في الدول اللاتينية .. بل أن الإنسانَ لا يعجب عندما يجلسُ ليشاهد واحدة من القنوات الفضائية الفرنسية فيجدُ مسئولاً إقتصادياً كبيراً يتحدثُ باللغةِ الإنجليزية (وهو ما كان من المستحيلاتِ منذ ثلاثة عقودٍ فقط) ويعرضُ أفكار تحركها روحُ المصطلحِ محل هذا المقال (The Compromise) .

فإذا ما إنتقلنا إلى منطقتنا من العالم وجدنا أعداداً كبيرةً من الناس ومن المتعلمين بل ومن الصفوةِ تقرن المصطلح (Compromise) بمجموعة من المعاني الأخرى مثل "التنازل" و"التراجع" و"التخلي" و"الضعف" و"الهزيمة" – وهي أمور لا تخطر على بال الإنسان الغربي وهو يستعمل مصطلح (Compromise) لأن تعليمه بكل أشكالِه (في مجالاتِ العلومِ التطبيقيةِ وفي سائرِ مجالاتِ الدراساتِ الإجتماعيةِ والإنسانياتِ) يغرسُ في أعماقه أن ما يسود من أفكارٍ ما هو إلاِّ (Compromise) .. بل أنه يعرفُ ببساطة من دراسته قبل الجامعية أن معظمَ الظواهرِ الطبيعية هي من قبيل الـ Compromise . كما أن ثقافات الأمم التجارية (ولعل بريطانيا هي أكبر أمة تجارية في التاريخ الإنساني) قد عملت على تأصيل فكرة الـ Compromise في شتى مجالات الحياةِ والتفكيرِ والتعاملاتِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والإجتماعيةِ بل والإنسانيةِ . وإذا كانت الأمثال العامية لدينا تعكسُ صورةً واضحةً لفهمٍ سلبي لمعنى ومصطلح (Compromise) فإن عشرات الأمثال الشعبية البريطانية تدلُ على العكس تماماً .

ورغم أن النصوص الأصلية في الدين الإسلامي تصلحُ بشكلٍ كامل لتأسيس ثقافةٍ متسمة بالـ Compromise إلاِّ أن التاريخ الإسلامي (والعربي منه بوجهٍ خاص) قد شابته روحٌ مناقضة تماماً للروح التي تخلقها ثقافةُ الـ Compromise . ويشهدُ تاريخنا الحديث عشرات الخسائر التي ما كان لها أن تحدث لو أننا لم نكن ننظر إلى مصطلح ومعنى الـ Compromise كمرادفٍ للتنازلِ والتراجعِ والخضوعِ والتفريطِ وأحياناً يبالغ كثيرون منا من عشاقِ الإنتصارات الخطابية فيضيفون كلماتٍ مثل (التركيع والإنبطاح) .

والحقيقة المؤكدة أن أي خلافٍ أو تعارضٍ أو صراعٍ هو موضوع تجاذب (متعارض) بين آراء مختلفة ومستويات قوى مختلفة : وكلُ ذلك يملي أن حلاً لا يقومُ على مصطلح ومعنى الـ Compromise هو أمرٌ مستحيل لأنه يعني إلغاء إرادات ومصالح وقوى طرف بشكلٍ كامل . وهو أمرٌ مخالف لقوانين العلم والطبيعة والحياة بأسرها . وعندما يكتبُ مفكرٌ مصري هو الدكتور ميلاد حنا مئات الصفحات عن نظريته في قبول الآخر وعندما يكتبُ مفكرٌ كصري عظيمٌ آخر هو الدكتور مراد وهبة مئات الصفحات عن إستحالةِ أن يتملك أحدٌ الحقيقة المطلقة فإنهما معاً يساهمان بنبلٍ فكريٍّ نادرٍ في واقعنِا في عمليةِ إرساءِ قواعدِ وثقافةِ وفكرِ ومعاملاتِ الـ Compromise .

ولا أزعمُ أنني أولُ من يتطرق بين كتابِ مصرَ لهذا الموضوع: ففي منتصف الخمسينيات حاول توفيق الحكيم ذلك في كتابه "التعادلية" ولكنه من جهة كان يعيشُ زمناً مختلفاً بالكليةِ عن الزمنِ الراهنِ مما إنعكس على المنتجَ النهائي الذي قدمه كما أنه (ويؤسفني أن أقول ذلك نظراً لإعجابي العميق بعبقرية توفيق الحكيم الإبداعية) لم يتطرق بعمقٍ للموضوع الذي عرضه – وربما كانت الثقافة السائدة في مصرَ يومها هي السبب وراء إفتقاد كتابه "التعادلية" للعمق الواجب ناهيك عن أن مصطلح التعادلية يعطي أبعاداً ومعانٍ تختلفُ عن مصطلح الـ Compromise .

وأعتقدُ أن إنتشارَ ثقافةٍ دينيةٍ تقومُ على (النقلِ) كان من الأسباب بالغة الأثر على عدم تطوير فكرة وآلية الـ Compromise في تفكيرنا : فإذا كنا نتحدث (الآن) مع إبن رشد أو الجاحظ (والأخير من أدباء المعتزلة) لكان من الممكن أن نشرح لهما ويقبلا منا أن التفكيرَ العام يجب أن يتسم بروح وأبعاد معاني مصطلح الـ Compromise ولكننا إذ كنا نتحدث مع أئمة "مدارس النقل" مثل أحمد بن حنبل إلى إبن تيمية إلى إبن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب إلى عشرات الدعاة المعاصرين الذين أفسحوا المجال كاملاً أمام "النقل" وأغلقوا الباب كليةً أمام "العقل" فإن محاولاتنا ستكون أشبه بمحاولة إبن رشد منذ ثمانية قرون وقد تحدثُ لكتاباتنا مثلما حدث لكتابات إبن رشد (وإن كان إبن رشد بشكلٍ ما محظوظاً إذ في مواجهة عدم تمكنه من هزيمةِ النقليين في دنيا الحضارة العربية/ الإسلامية إِلاَّ أنه هزم النقليين في دنيا الثقافة المسيحية - فلا شك أن إبن رشد وأفكاره قد قضت على أفكار توما الإكويني كليةً في القرن الثالث عشر ومن خلال المتحمسين لأفكار إبن رشد بكلية الآداب بجامعة باريس في ذلك الوقت - وربما ينصفنا التاريخُ في يومٍ من الأيام ويقول أن عربياً مسلماً كان وراء إنتصار "العقل" على "النقل" في زمن كانت أوروبا فيه ضد العقل وحرية التفكير بشكلٍ سافرٍ - ولولا هذا الإنتصار للعقل على النقل لكانت أوروبا اليوم مثل القارة الأفريقية في درجاتِ التقدمِ والنهضةِ والرقي.

إن فريقاً من المفكرين الذي يجمعون جمعاً راقياً بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية والثقافات الإنسانية عليهم أن يضعوا دستوراً موجزاً لغرس قيمة ثقافة الـ Compromise في عقول أبناءِ وبناتِ هذه الأمة (مصرَ) من خلال برامج التعليم ومن خلال منظومة فكرية تؤصل أن الـ Compromise هي المنتج الأقوى للطبيعة والحياة ومسيرةِ الحضاراتِ والثقافاتِ وأن الرأي الواحد أو الحصول (في نهاية الحوار) على كل شئٍ هو ضد منطق العلم والطبيعة والإنسانية والثقافة والحضارة.

ونظراً لعدم تمكني من العثورِ في القواميسِ والمعاجم على كلمةٍ واحدة أُترجمُ بها مصطلح Compromise فقد إقترفت في هذا المقال أمرين كنتُ أودُ عدم إقترافهما : أنني أستعملتُ أولاً الكلمة الإنجليزية Compromise مرات عديدة ...ثم أنني عنونت المقال بترجمة للمصطلح لا يمكن أن أكون راضياً عنها، ولكنني تشبعاً بفكرة الـ Compromise عملتُ بموجبِ الحكمةِ المأثورة (ما لا يدرك كله لا يترك كله).
(الأهرام 14/9/2002)