مشتكون .. ومشخصون .. ومعالجون

نحن أمة (أعني الأمة المصرية) تُعاني من عددٍ غير قليلٍ من المشاكل. ولا ترجع هذه المشاكلُ لعيوبٍ عرقيةٍ فينا (فالقول بذلك يخالف كل ما هو مستقر في العلومِ الحديثةِ) وإنما لأسبابٍ عديدةٍ بعضها سياسي وبعضها إقتصادي وبعضها ثقافي والبقية إجتماعية وتعليمية وإعلامية. ولسنا المثال الوحيد لأمةٍ تُعاني من مشاكلٍ كهذه؟ فالعالمُ يشهد عدداً من الأممِ التي تُعاني أضعاف ما يشهده من الأممِ التي أحدثت إنجازاتٍ كبيرةٍ تجعلها في أوضاعٍ ممتازةٍ (وأن لم تخل من العيوب - فكل ما هو "إنساني" مشوب بالنقصِ والعيوبِ بدرجةٍ ما: صغرت تلك الدرجةُ أم كبرت).ولكن الذي يجعلنا نختلف بعض الشيء عن أُممٍ أُخرى تواجه مشاكلاً كبرى كما نواجه نحن هو ما يلي:
    أولاً :

    أن عدداً كبيراً منّا يميل لإرجاعِ تلك المشاكلِ لأسبابٍ خارجيةٍ ، لأن ذلك من جهةٍ أسهلُ ومن جهةٍ أخرى لا يحمل الإنسان على نقِد نفسِه بشدةٍ، ناهيك عن أن إرجاعَ المشاكلِ لأسبابٍ داخليةٍ يُملي القيام بعملٍ (أو بأعمالٍ) أما إرجاع المشاكل لأسبابٍ خارجيةٍ فأنه يسهّل الركون للراحة (الراحة المادية وراحة الضمير معاً!). وقد أُتيح لي أن أعرف عن قربٍ مجتمعاتٍ عديدةٍ في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل وفي أوروبا (مثل "روسيا" بالتحديد) وأكاد أُجزم (أنا الذي لا يحب الجزم إطلاقاً) بأن معظمَ هذه الأمم لا تماثلنا في الميلِ الشديدِ لإرجاعِ مشاكلها لأسبابٍ خارجيةٍ بل وتميل للعكس وهو ما يأخذها لعملياتِ نقدٍ ذاتيةٍ لا أظن أن معظَمنا يطيقها.

    ثانياً :

    أن عدداً كبيراً منا (بما في ذلك الصفوة الفكرية والصفوة الإدارية) تميل إما للشكوى أو لتشخيص العلل - ونحن في ذلك من الأفذاذِ!...بينما يندر من يتجه عقلُه وتفكيرُه إلى ما وراء (الشكوى) و (تشخيص العلل) لوصف ثم تطبيقِ "روشتات العلاج".
وهناك في الحقيقةِ صلة قوية بين إرجاعِ المشاكلِ لأسبابٍ خارجيةٍ والإكتفاء بالشكوى وتشخيص العلل... كما أن هناك صلةً قويةً بين إرجاعِ المشاكلِ لأسبابٍ داخليةٍ والإنكبابِ على وضعِ وتنفيذِ "روشتات العلاج". فالحزمةُ الأولى من المواقفِ (إرجاع المشاكل لأسبابٍ خارجيةٍ...والشكوى...والإسراف في تشخيصِ العلل) هي "حزمة سلبية" في جوهرِها ومادتها الخام المصنوعة منها. أما الحزمةُ الثانية من المواقفِ (إرجاع المشاكل لأسباب داخلية ...وعدم الإنشغال بالشكوى...والمرور بسرعةٍ على مرحلةِ التشخيص... وممارسة أشكالٍ عدةٍ من النقدِ القاسي للذات...ثم وصف أساليب العلاج وتطبيقها) فإنها "حزمةٌ إيجابيةٌ" في جوهرِها ومادتها الخام المصنوعة منها. ولننتقل بعد ذلك التأصيل الفلسفي اللازم لعددٍ من الأمثلةِ التي تزيد ما ذكرته آنفاً وضوحاً.

فنحن جميعاً نعلم أن العالمَ المتقدم يعتبر نوع التعليم الذي تقدمه مؤسساتنا التعليمية بشتى مستوياتها "تعليماً خارج العصر" ، ومنذ سنواتٍ وعدد كبير من الشهادات المصرية أضحت غير معترف بها في الخارج، ناهيك عن أن مؤسساتِ العمل العالمية قد كررت مراراً أن مُتلقي التعليم في مصرَ خلال السنوات الثلاثين الأخيرة بالتحديد لا يصلح (في أغلب الحالات - وبإستثناءاتٍ قليلةٍ) لمعظمِ مواقعِ العملِ في سائرِ الوحداتِ الإقتصاديةِ الإنتاجيةِ والخدميةِ وكذلك في مجالاتِ التعليمِ قبل الجامعي والجامعي وفي مجالاتِ البحث العلمي وأَنه في الأغلبِ إنسانٌ عاش في ظلِ منظومةٍ تعليميةٍ تقوم على إختباراتِ الذاكرةِ والتلقين وحشد المعلومات في الرؤوس ولكنها خالية من الحريةِ الفكريةِ والإبداعِ والقدرةِ على البحثِ الحر والقدرةِ على العمل الجماعي (روح الفريق) ناهيك عن فقرٍ مذهلٍ في القدرةِ على التعبيرِ عن الآراء شفاهة أو كتابة بالإضافة إلى مستوياتٍ بالغة التدني في التعامل بلغاتٍ أجنبيةٍ. نحن جميعاً نعلم ذلك...وهناك الكثير جداً الذي يُقال ويُكتب ولكن كله إما تحت عنوان (الشكوى) أو تحت عنوان (تشخيص المشكلة)...أما العملُ الفعّالُ على التغيير فإما ضئيل للغاي ةِ وإما متعثر أمام سطوةِ البيروقراطية المصرية وإما متسم ببطء يشبه السكون...ولدينا "شيوخ تربية" بالعشراتِ والمئاتِ يعيشون تحت لافتة "الشكوى" أو تحت لافتة "التشخيص". وكرجلِ إدارةٍ فإنني أعلم أن ذلك نتيجةٌ طبيعيةٌ لأننا أعطينا مهمةَ التغييرِ والتطويرِ في هذه المنطقةِ الحيويةِ (للغايةِ) لمن هم إما شركاء في صنعِ المشكلةِ الحالية التي نعاني منها وإما لمن هم على غيرِ صلةٍ بسياساتِ التعليمِ العصريةِ القائمِة على الإبداع وغرسِ قيمِ التقدمِ والإتقان والعمل الجماعي والإستعمال الواسع لأدواتِ التكنولوجيا الحديثة في الإتصالاتِ والمعلوماتِ وغيرها.

وإذا تركنا مأساةَ التعليمِ جانباً وأمعنا النظر في منطقة أخرى مثل إفتقارنا الشديد للقياداتِ الإداريةِ التي بدونها لا يصنع نجاحاً ولا تطويراً ولا نهضة، فإننا نجد أنفسنا أمام نفس الوضع : فالكل يشكو مكرراً (إنها مشكلة إدارة في المقام الأول والأخير)...والبعض ينتقل من "الشكوى" لبعضِ أشكالِ التشخيص...ثم نبقى على ما نحن عليه: أمة أدت منظومتُها الإدارية/ البيروقراطية وأدت منظومتُها التعليمية وأدى إنقطاعُها عن الإتصالِ بعلومِ الإدارةِ الحديثةِ نظرياً وعملياً إلى حالةٍ من أسوأ حالاتِ الإدارةِ في العالم: فنحن ببساطة أمة لديها جيش من "الرؤساء في العمل" في شتى المواقع "ولكن السواد الأعظم من هؤلاء "رؤساء" وليسوا "مديرين" أو "قادة تنفيذيين" بحسب المفاهيمِ الحديثةِ للقيادةِ الإداريةِ والتي ليست مطابقةً بالضرورةِ لكون إنسان رئيساً في العملِ. والسببُ أننا لا نتوقف عن الشكوى من وجود "مشكلة إدارة" في مصرَ ولا نتوقف عن تشخيصِ الداءِ...ولكننا نُبقي المنظومة الإدارية بأكملِها على حالِها: التدريب ...إكتشاف المواهب القيادية... الترقية... إختيارت القيادات...عدم تأبيد القيادات...تبقى منظومتنا في هذه المنطقة بلا أي تغييرٍ - ثم يتعجب ا لبعضُ منا: لماذا ندرك أن المشكلةَ هي "مشكلة إدارة" ثم لا يعقب ذلك علاج ؟ ببساطةٍ : لأن العلاجَ يحتاج لجسارةٍ كبيرةٍ في تغييرِ ما أصبح من الثوابتِ في دنيا لم تعد فيها ثوابتٌ كثيرةٌ.

وينطبق ما سلف على عشراتِ المواضيعِ والمجالات، إذْ نبقى بعيدين عن "الحلولِ الجذريةِ" بسبب إستغراقِنا إما في "الشكوى" أو في "التشخيص" ...في وقتٍ أصبحت كبرياتُ برامج التدريب في مجال الإدارة العليا تقوم على فكرةِ "إدارة التغيير" (Management of Change) : فهذا هو الجسر الوحيد ما بين جانب الشكوى والتشخيص وجانب العلاج...بمعنى أنه من المستحيلِ أن تؤدي الشكوى وأن يؤدي تشخيص المشاكل لأي علاجٍ... وبنفسِ القدرِ، فإن عدمَ تغييرِ الأُطرِ التي في ظلها تكونت المشاكل (بما في ذلك عدد من النظم المستقرة والقوانين) سيكون دائماً مسبباً لإستحالة التطوير: فحلُ معظم المشاكل في ظل بقاء أُطر نشوءِها ونموها هو ضربٌ من المستحيل - ومن الخطأ للغايةِ هنا أن نظن أن الإحتفاظَ بالأُطرِ الشائعةِ مجلبٌ للإستقرار ، إذ أنه في الحقيقةِ مجلبٌ لإستمرارِ المشاكلِ وتفاقمها - فكلُ "إطارٍ" كان سبباً لمشكلةٍ من مشاكلِ حياتنا يجب أن "يزال" ويستبدل بإطارٍ آخرٍ مختلف تماماً لنكون على دربِ التطوير.

ولا يكتمل الحديثُ في هذا الموضوع دون التطرق لإرادةِ التغييرِ: إذ يبقى المجتمع دائراً في مداراتِ الشكوى وتشخيصِ العللِ ولا يخرج لمداراتِ التطويرِ كلما كانت إرادةُ التغييرِ صغيرةً أو كانت هناك رغبة في تجنبِ مواجهاتٍ لا يمكن إحداث التغيير بدونها مع مسلماتٍ وأوضاعٍ وأشخاصٍ لا يمكن إكتمال إرادةِ التغييرِ بدون إستقرارِ اليقيين أنهم وإن كانوا من مفرداتِ الماضي إِلاَّ أنهم حتماً ليسوا من مفرداتِ المستقبل الجيد بل قد يكونوا من عوائقِ وموانعِ مجيئه بالصورةِ الإيجابيةِ المنشودةِ.

إن أحزاب المعارضة في مصرَ تتحدث (بلا كلل) عن حتمية "تداول السلطة" وهو مطلب لا فائدة منه: فكل عيوب حياتنا العامة مجسدة في أحزاب المعارضة بل وأحياناً بدرجة أشد - والمسألة الأهم هي أن "صنّاع المشاكل" (أياً كانت هذه المشاكل) هم أقل الناس قدرة على معالجتها وأن الأمر لا يحتاج في حياتنا لتداول سلطة أو حتى الحديث عن أجيال أصغر سناً وإنما الحديث عن ثلاثة أمور بالغة الأهمية:
  • أن حل المشاكل عن طريق صناعها أمر مستحيل.
  • أن حل المشاكل دون تغيير جذري في أُطر تكوينها هو أيضاً أمر مستحيل.
  • أن "السن" في حد ذاته ليس عنصراً في معادلة التطوير، فنحن لسنا بحاجة لأشخاص أصغر سناً بقدر ما نحن بحاجة لأفكار أكثر شباباً وحداثة (وعصرنة) وقد يجتمع الأمران : شباب العمر وشباب الفكر وقد يفترقا.


(أخبار اليوم 21/9/2002)