مؤسسات الديمقراطية أهم من الديمقراطية
يتردد كثيراً في مراكز دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة وأوروبا وأَيضاً في جلساتِ الحوار في شتى بقاع العالم سؤالٌ بالغ الأهمية هو: هل يُحتمل أن يؤدي تطبيق الديموقراطية في بيئات غير ديموقراطية لوصولِ تياراتٍ سياسيةٍ متطرفةٍ للحكم أم لا ؟ …وهل يقتضي الإيمان بالديموقراطية التسليم بذلك أي بوصولِ تلك التيارات المتطرفة للحكم؟ والحقيقة أن السؤالَ (رغم ذيوعه) يعكس هزالاً شديداً في فهم الكثيرين للديموقراطية. فالديموقراطية تعني حدوث ثلاث عمليات أساسية – أما العمليةُ الأولى فهي مجيء الحكام للسلطةِ بطريقةٍ ديموقراطية…وأما العملية الثانية فجوهرها أن يمارس الحكام الحكم وهم من جهة في حالة إلتزام كامل بالقواعد الدستورية والقانونية وأن يكونوا من جهةٍ ثانيةٍ يحاسبون أو أن يكونوا قابلين للمحاسبة(Accountable ) …وأما العملية الثالثة فهي أن يتركوا السلطة بطريقةٍ ديموقراطيةٍ . وهذه العمليات الثلاث التي من توفرها وإكتمالها وعملها تتوفر الحياةُ الديموقراطية لا ترتبط فقط بصندوق الإنتخابات ولكنها ترتبط أساساً بوجودِ منظمات المجتمع المدني من جهةٍ وتوفر آليات الحياة والممارسة الديموقراطية من جهةٍ ثانية. وهكذا فإن صندوق الإنتخابات ليس إلاَّ جزء صغير من عمليةٍ أكبر هي توفر المناخ الديموقراطي والذي يوجد بوجود العمليات الثلاث التي أشرت إليها وبتوفر آليات ومنظمات وتنظيمات المجتمع المدني من جهةٍ ومؤسسات العمل الديموقراطي من جهةٍ أخرى. وأعتقد أن المؤمنين حقيقةً بالديموقراطية يفهمون الصورة بتلك الكيفية: فيبذلون الجهود من أجل خلق وتفعيل مؤسسات وآليات العمل السياسي الديموقراطي ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والقاسم المشترك بينهما هو (المشاركة المؤسسية) وهو ما سوف يؤدي لتوفر الآليات الثلاثة الكبرى للديموقراطية وهي مجيء الحكام بطريقة ديموقراطية، وممارسة الحكام للحكم بطريقة ديموقراطية، وترك الحكام للحكم بطريقةٍ ديموقراطية . وفي المقابل فإن الذين ينظرون للديموقراطية كأداةٍ ستمكنهم من الوصول للحكم ثم بعثرة وإفناء مكونات ومؤسسات ومنظمات وفعاليات الديموقراطية فإنهم يركزون على صندوق الإنتخابات لاسيما وأنهم يعلمون أنه في ظل مناخِ عدمِ النجاحِ بوجهةٍ عام في إدارة مجتمعاتهم وفي ظل شيوع الإحباط والتذمر من أوجه الخلل العديدة والضيق العارم بمزايا محتكري السلطة والألم الشديد من شيوعِ الفسادِ فإن صندوق الإنتخابات قد يأتي في الأرجح بهم لأنهم أصحاب شعارات منا وئة لكل معطياتِ الواقع السلبية – وإذ كان من المؤكد أنهم من جهةٍ لا يملكون عناصر الكفاءة القادرة على تحقيق النجاح المنشود كما أنهم من جهة أخرى سوف يدمرون مكونات المناخ الديموقراطي ويكونون هنا مثل عازف يجلس وسط جوقة موسيقية ويقوم بعد توليه قيادة الجوقة يتمزيق النوتة الموسيقية – فإنه بوسعنا أن نوافق على أنه من السذاجة تركيز الإهتمام بمسألة صندوق الإنتخابات بمعزل عن العناصر الأخرى الأكثر أهمية والتي ذكرتها آنفاً.
* نُشر هذا المقال بجريدة "الأهرام" القاهرية يوم الخميس 5 يونية 2003 كما نُشر على الموقع العربي لوكالة الأنباء الفرنسية Elaph في نفس اليوم ثم أعادت جريدة وطني نشره بعددها الصادر بتاريخ الأحد 8 يونية 2003 .
|